المصدر: ذي أتلانتيك كاونسيل
ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات
بعد خمس سنوات من انطلاق "اتفاقيات أبراهام" وتطبيع العلاقات بين أربع دول عربية و"إسرائيل"، ما زالت هذه الاتفاقيات التاريخية في مهب الريح، فيما ينتظر مؤيدوها انضمام السعودية إليها، وهو أمر مستبعد طالما استمرت الحرب في غزة. ومع ذلك، حتى لو انضمت الرياض غدًا، سيبقى سؤال أكبر: ما مستقبل هذه الاتفاقيات بعد تحقيق السلام؟ لقد كانت هذه الاتفاقيات أكثر بكثير من مجرد اتفاقية سلام مع "إسرائيل"؛ حيث كانت تتويجًا لتحوّل إقليمي، هو اختيار سياسة التسامح والاستقرار الإقليمي بدلًا من استمرار الكراهية والطائفية، التي ألحقت الكثير من الدمار بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
لمواصلة هذه الحركة، يجب أن تتطور الاتفاقيات إلى ما هو أبعد من العلاقات الثنائية الوثيقة، لتتحول إلى تحالف متعدد الأطراف؛ تكتل من الدول ذات الأغلبية المسلمة ذات العلاقات الوثيقة مع "إسرائيل"، لا تجمعها المصالح المشتركة فحسب بل القيم المشتركة أيضًا، وعلى وجه التحديد الالتزام بالتسامح والسلام ومحاربة التطرف الإسلامي. وينبغي أن تكون الخطوة الأولى إشراك الدول ذات الأغلبية المسلمة التي تربطها علاقات وثيقة مع "إسرائيل"، مثل أذربيجان والكاميرون وكازاخستان وكوسوفو وأوزبكستان. وبدعم من الولايات المتحدة، يمكن لهذه الكتلة أن تساعد حركة الاتفاقيات على تحقيق كامل أهدافها، ويمكن أن يكون التحالف الوليد نواة لحركة عالمية قوية قائمة على التسامح والتحديث والتعاون الاستراتيجي.
تشكيل إطار عمل ضروري
في الوقت الحالي، تُعتبر "اتفاقيات أبراهام" مجرد وثيقة تؤكد التزام الدول الموقعة عليها، الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، بالسلام والتسامح والتعاون، وقد وُقعت لاحقًا اتفاقيات ثنائية بين "إسرائيل" والدول الموقعة بشكل منفصل. لكن للارتقاء بالاتفاقيات إلى مستوى أعلى، يجب على الدول الموقعة وضع إطار عمل، قد يشبه نموذج مجموعة "بريكس"، والذي من شأنه أن يُسهم في تعزيز مزيد من التعاون.
لا تمتلك مجموعة "بريكس" ميثاقًا أو أمانة عامة أو صناديق مشتركة، وتعتمد على قرارات توافقية، ومع ذلك فإن لها أهدافًا واضحة: توحيد الاقتصادات الناشئة، وزيادة نفوذها العالمي، وتعزيز نظام عالمي متعدد الأقطاب، وتقليل الاعتماد على المؤسسات التي يهيمن عليها الغرب، وقد سهّل هذا الإطار التعاون بين دول المجموعة لتحقيق أهدافها.
بالمثل، يمكن لتحالف "اتفاقيات أبراهام" أن يتبنى نموذجًا مشابهًا بهدف تعزيز التسامح بين الأديان والأعراق، وتبني مفاهيم إسلامية معتدلة، وزيادة التعاون بين أعضائه. وبمجرد وضع إطار عمل ينبغي أن تجتمع الكتلة سنويًا لمناقشة الأولويات، مثل المبادرات المشتركة لمكافحة الإرهاب والتبادل التعليمي والثقافي. والأهم من ذلك، ينبغي أن يُمنح كل عضو صوتًا متساويًا وأن تُتخذ القرارات بتوافق الآراء. ولتجنب هيمنة دولة واحدة، ينبغي أن تكون القيادة دورية، وأن تُدار الوظائف الإدارية والفنية بواسطة أمانة عامة محايدة. ففي حين توفر الرئاسة الدورية للدولة القيادة الاستراتيجية ووضع جدول الأعمال، تكرز الأمانة العامة على ضمان التواصل الواضح بين الأعضاء وإحراز تقدم في المبادرات ودعم القمم السنوية.
تكوين كتلة موحدة
ما يغفله كثير من المراقبين هو أن "اتفاقيات أبراهام" لم تكن أول خطوة في إرساء علاقات وطيدة بين "إسرائيل" والدول الإسلامية، كما إن إشراك الدول غير العربية ذات الأغلبية المسلمة التي أقامت علاقات بالفعل، سيكون مفتاحًا لبناء الاتفاقيات على أساس متين؛ فهناك دولتان من أقرب حلفاء "إسرائيل" ذات الأغلبية المسلمة هما أذربيجان وكازاخستان. من جهتهم، يرى قادة هاتين الدولتين أن التسامح الديني والعرقي أمرٌ بالغ الأهمية للحفاظ على الاستقرار؛ فحقوق الأقليات محفوظة بموجب دستوريهما، ولممثلي الطوائف العرقية والدينية منظمات مدعومة حكوميًا تُمثّلهم، مثل "جمعية شعب كازاخستان".
وقد ساهمت هذه السياسة في تعزيز العلاقات مع "إسرائيل"؛ فلم تكتفِ أذربيجان بتعزيز علاقاتها مع "إسرائيل" عقب حرب غزة فقط، بل أصبحت واحدة من أكبر موردي الطاقة إليها. كما توسطت باكو بين "إسرائيل" وتركيا، وشاركت في عمليات التنقيب الرئيسية عن الغاز في حقول تمار قبالة سواحل "إسرائيل". وكان الرئيس الكازاخستاني، قاسم جومارت توكاييف، أول رئيس من آسيا الوسطى يُدين حماس على خلفية هجوم السابع من أكتوبر، ويطالب بالعودة غير المشروطة للرهائن المحتجزين في غزة، كما سعى إلى تعزيز العلاقات الثنائية مع الدولة اليهودية، واستقبل مؤخرًا وفدًا رفيع المستوى من المسؤولين "الإسرائيليين".
لكن كازاخستان وأذربيجان ليستا الدولتين الإسلاميتين الوحيدتين اللتين تربطهما علاقات وثيقة بـ"إسرائيل"؛ ففي عام 2021، اتخذت كوسوفو خطوة تاريخية بأن أصبحت أول دولة إسلامية تنقل سفارتها إلى القدس. بدورها، أعربت الكاميرون أيضًا عن دعمها "الثابت" لـ"إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر، وامتنعت عن التصويت لصالح قرارات الأمم المتحدة المناهضة لـ"إسرائيل"، مثل قرار كانون الأول/ ديسمبر 2023 الشهير الداعي لوقف إطلاق النار في غزة.
وخلال هذا العام أطلقت شركة طيران أوزبكية ثلاث رحلات جوية مباشرة إلى "إسرائيل"، في ظل تزايد التجارة بين البلدين في السنوات الأخيرة. وفي حين هددت العديد من الدول الأوروبية "إسرائيل" بعقوبات اقتصادية أو خفضت مستوى العلاقات، أو اتخذت إجراءات دبلوماسية أو تجارية بسبب الحرب المستمرة في غزة، امتنعت هذه الدول الإسلامية المذكورة آنفًا عن تقديم أي مطالب. وبينما أعرب بعض القادة عن رغبتهم في حل سلمي للحرب، فإنهم لم يحاولوا فرض قرارات على تل أبيب من خلال التهديدات أو الضغط.
ومن نافلة القول إن الدول الأعضاء الجدد في "اتفاقيات أبراهام" يجب أن تستوفي معايير محددة تتجاوز إقامة علاقات مع "إسرائيل". لنأخذ مصر والأردن وتركيا على سبيل المثال؛ فبينما تربط عمّان والقاهرة علاقات رسمية بالدولة اليهودية، فما زال التواصل على المستوى الشعبي محدودًا، وما زالت الروايات المعادية للسامية تشكل تحديات أمام تعميق التطبيع، ويشمل ذلك المؤسسات التعليمية والثقافية التي تُصوّر "إسرائيل" واليهود بشكل سلبي. وإن كانت مصر أحرزت بعض التقدم في الإصلاحات التعليمية، لكن الكتب المدرسية الأردنية تدهورت خلال العام الماضي؛ حيث تُصوّر اليهود على أنهم مخادعون وعدائيون، وتُبرر أفعال ألمانيا النازية.
وبعد أن كانت تركيا حليفًا وثيقًا لـ"إسرائيل"، تدهورت العلاقات في عهد الرئيس "أردوغان" بشكل ملحوظ؛ فمنذ هجوم حماس في السابع من أكتوبر وما نتج عنه من حرب غزة، اتخذت تركيا موقفًا مؤيدًا قويًا للحركة، وطبقت سياسات إسلامية في الداخل، واستخدمت التشهير بالدماء وغيره من الخطابات المعادية للسامية عند الإشارة إلى"إسرائيل". كما أصبحت معاداة السامية جزءًا أكبر من الخطاب العام في تركيا، خصوصًا بعد السابع من أكتوبر. وغالبًا ما يكون انتقاد "إسرائيل" جزءًا من اللعبة السياسية الداخلية، ومن خلال المساعدة في التحريض على الكراهية بين السكان، فإن تركيا تبعد مجتمعها عن مبادئ السلام والتسامح.
مصالح متبادلة وتحديات مشتركة
علاوةً على ذلك، فإن "اتفاقيات أبراهام" الأوسع والأكثر متانة لن تفيد "إسرائيل" والدول ذات الأغلبية المسلمة فحسب، بل ستعود بالنفع على الولايات المتحدة كذلك. إن الإسلام السياسي يُشكل أحد أهم التهديدات لنفوذ الولايات المتحدة وأمنها القومي في العالم الإسلامي؛ فقد لجأت جماعات مثل "القاعدة" و"داعش" والحوثيون إلى استغلال "الإمبريالية الأمريكية" كتهديد مُفترض، ما أجج الهجمات على الولايات المتحدة وحلفائها. وقد فشلت الجهود السابقة ضد الإسلام السياسي في كسب القلوب والعقول، لكن مع وجود داعمين إقليميين، مثل الإمارات والسعودية وعالم إسلامي سئم من الطائفية، فهناك مجال أكبر من أي وقت مضى لترسيخ أيديولوجية سلمية.
فاليوم، تُحارب العديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة التطرف الإسلامي؛ حيث تواجه أوزبكستان مستويات متزايدة من العداء العقائدي، ويخشى المغرب هجومًا مشابهًا لهجوم السابع من أكتوبر من قبل جبهة البوليساريو الماركسية المدعومة من الجزائر وإيران، والتي تحتل أجزاءً من الصحراء الغربية. وفي أذربيجان، حاولت جماعة الحسينيين (جماعة عرقية أذربيجانية تابعة لإيران) تحريض السكان على تنفيذ هجمات إرهابية، واستهدفت سياسيين ومبانٍ حكومية وأهدافًا مدنية، وفي الكاميرون تستهدف جماعة "بوكو حرام" المدنيين بانتظام في أقصى شمال البلاد.
وفي هذا الإطار، كان هناك بعض التعاون في مكافحة الإرهاب؛ ففي أواخر العام الماضي وقّعت أوزبكستان والسعودية مذكرة تفاهم بشأن زيادة التعاون في مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال، وتعاونت أذربيجان في كثير من الأحيان مع "إسرائيل" في مجال الدفاع ومكافحة النفوذ الإيراني. كما سعى مسؤولون "إسرائيليون"، بمن فيهم "نتنياهو"، إلى تعاون ثلاثي مع الولايات المتحدة وأذربيجان، لكن هذا التعاون سيكون أقوى بكثير لو كان متعدد الأطراف، وليس مجرد اتفاقيات ثنائية. إن هذه الشراكات ستمتد إلى ما هو أبعد من الدفاع؛ فالعديد من هذه الدول تواجه قضايا مماثلة، مثل تغير المناخ وندرة المياه والتكيف مع عالم متعدد الأقطاب، وقد استفادت هذه الدول بالفعل من التقنيات الزراعية وتحلية المياه وغيرها من التقنيات "الإسرائيلية" في مواجهة هذه التحديات.
لكن بالمقابل، لن يخلُ طريق تعميق وتوسيع "اتفاقيات أبراهام" من العقبات؛ فالحرب المستمرة على غزة لا تزال تُؤجج التوترات الإقليمية وتحشد الشعوب الإسلامية ضد "إسرائيل". إضافةً لذلك، من المرجح أن تُعارض دولٌ مثل إيران وتركيا أي مبادرة من هذا القبيل في ظل تركيزها على حل الصراع الفلسطيني. وبالطبع فإن أسباب معارضتها مختلفة؛ فعلى عكس طهران، التي تدعو لتدمير "إسرائيل"، فإن هدف أنقرة النهائي المعلن هو حل الدولتين. لكن الدعم الأمريكي قد يجعل تركيا وإيران عاجزتين عن وقف توسع الإتفاقية، تمامًا كما عجزتا عن منع الإمارات من تطبيع علاقاتها مع "إسرائيل" عام 2020.
بالطبع، سيكون التوسع في البداية غير مرغوب في العالم الإسلامي، وقد يُسبب بعض الرفض لدى شعوب هذه الدول، لكن على المدى البعيد ستلمس هذه الدول فوائد الاتفاقيات؛ مزيد من التماسك المجتمعي والاستقرار والازدهار. وفي حين ينبغي أن ينصبّ التركيز على الدول نفسها، فإن للولايات المتحدة دورًا ينبغي أن تقوم به؛ إذ يمكن أن تدعم واشنطن هذه المبادرة من خلال تقديم حوافز للدول الأعضاء للانضمام إلى مثل هذا التحالف، كما فعلت مع الدول التي انضمت بالفعل للاتفاقيات.
وستكون اتفاقيات التجارة التفضيلية، والوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية، والدعم الدبلوماسي كلها دوافع قوية، لكن من المهم ألا تحاول الولايات المتحدة تحويل مثل هذا التحالف إلى حصن ضد روسيا أو الصين. ففي ظل معارضة إيران لوجود مثل هذا التحالف، لا داعي لاختلاق معارك غير ضرورية مع بكين وموسكو، خصوصًا بالنظر إلى أن جميع دول "اتفاقيات أبراهام"، بما فيها "إسرائيل"، سعت إلى علاقات براغماتية مع كليهما، وبالتالي فإن محاولة استخدام هذا التحالف للحد من النفوذ العالمي الروسي أو الصيني قد تقوّضه حتى قبل انطلاقه.
اتفاقيات أكثر بكثير من مجرد سلام
خلال أكثر من ثمانين عامًا من الانخراط الوثيق في الشرق الأوسط، لم تتمكن الولايات المتحدة قط من تقديم بديل للأيديولوجيات الثورية التي مزقت المنطقة، سواءً كانت الناصرية أو القومية العربية أو البعثية أو الإسلامية؛ فقد نجحت هذه المدارس الفكرية نجاحًا باهرًا في تشكيل السياسة العربية، ما أدى إلى الحروب والطائفية والإرهاب والتعصب. من ناحية أخرى، نشأت الحركة الأيديولوجية التي أدت إلى "اتفاقيات أبراهام" محليًا؛ حيث أدرك قادة من دول مثل الإمارات والبحرين والمغرب والسودان والسعودية أن التسامح ومحاربة التطرف مفتاح الاستقرار والازدهار الإقليميين.
وفي حين تسعى إدارة "ترامب" إلى "التجارة لا الفوضى" في المنطقة، فإن أيديولوجية "اتفاقيات أبراهام" هي الأداة الأقوى لتحقيق هذا الهدف. وكما أشار "ترامب" خلال زيارته إلى السعودية، فإن نجاحات الرياض وأبو ظبي لم تأت من "التدخليين" أو "بناة الأمم"، بل من قادة كرسوا جهودهم لمستقبل سلمي ومزدهر. أما المرحلة التالية من الاتفاقيات فهي تعميق تحالف أيديولوجي متعدد الأطراف متجذر في التسامح، وإذا تمت رعاية هذا التحالف بالرؤية والدعم، فقد يصبح الحل الأمثل للتطرف في العالم الإسلامي.