تبدو ملامح "سلام صيني"، أو ما يطلق عليه باللاتينية "باكس سينيكا"، في التشكل في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى على مرأى من الجميع، وإن لم يلاحظ ذلك أحد من المخططين الأمريكيين. والعماد الرئيسي لهذا الهيكل الاستراتيجي هو التحالف الناشئ بين باكستان، التابع الاقتصادي للصين، وتركيا التي تعتمد بشكل متزايد على الصين في التمويل والتجارة.
في التفاصيل، تناولت وسائل إعلام صينية زيارة وزير الخارجية التركي إلى باكستان، في الفترة من 12 إلى 13 كانون الثاني/ يناير، كخطوة رئيسية نحو هذا التحالف. وإذا تحالفت كل من تركيا وباكستان، فإن "إيران ليس لديها خيار سوى إيجاد طريقة للانضمام إلى المعسكر التركي-الباكستاني"، بحسب رأي موقع عسكري صيني، أعاد نشره موقع "Net Ease".
لقد أَثَرْتُ لأول مرة احتمال "السلام الصيني" في الشرق الأوسط عام 2013، ولاحظتُ العام الماضي أن صفقة الاستثمار الصينية الإيرانية التي نوقشت كثيرًا (لكن تمت مناقشتها حتى الآن فقط)، بقيمة تصل إلى 400 مليار دولار، كانت "خطوة على لوحة ألعاب عالمية ردًا على الجهود الأمريكية لإعاقة انطلاق الصين كقوة تكنولوجية عظمى".
وقد أضاف التقارب التركي الباكستاني خلال الأشهر القليلة الماضية بعدًا جديدًا لطموحات الصين في المنطقة؛ فبينما ركّزت أمريكا على اتفاقيات السلام بين "إسرائيل" وكل من الإمارات والبحرين والسودان، كانت الصين تناور بين تلك الدول الإسلامية الثلاث التي تتمتع بقدرات عسكرية وإمكانات اقتصادية كبيرة. وسوف توفر "مبادرة الحزام والطريق"، الأساس الاقتصادي للهيمنة الصينية من المحيط الهندي إلى البحر الأسود. ويعتقد المخططون الصينيون أن الكتلة الصاعدة الناشئة عن تركيا وإيران وباكستان ستترك الهند (حليفة أمريكا) معزولة وضعيفة.
إنها الجغرافيا السياسية القائمة على أساس مبادئ "Go"، التي تهدف إلى تطويق وعزل القطع المتعارضة؛ حيث إن "اتفاقيات أبراهام" بين "إسرائيل" والعديد من الدول العربية لها أهمية رمزية، وتكشف عن الصراع العربي "الإسرائيلي" باعتباره الخط الأقل إثارة للاهتمام غرب آسيا، كما كتب السفير "الإسرائيلي" السابق، مايكل أورين، في الـ12 من كانون الثاني/ يناير. "إنها نتيجة الضعف الأمريكي وليست نتيجة القوة"؛ فقد أعلن "ترامب" عن نيته سحب القوات الأمريكية من المنطقة، تاركًا دول الخليج تدافع عن نفسها ضد إيران وتركيا.
لقد اعتبرت دول الخليج أن "إسرائيل" أقل رفضًا لديها من الشيعة الإيرانيين وجماعة "الإخوان المسلمين" المدعومة من تركيا. لكن "إسرائيل" ودول الخليج لا تستطيعان سد الفجوة التي خلّفها الانسحاب الاستراتيجي من قبل الولايات المتحدة، فتقدمت الصين لملء هذا الفراغ بالعمل مع كل من تركيا وإيران وباكستان.
علاوةً على ذلك ، فإن دول الخليج لديها إمكانات اقتصادية ضئيلة بخلاف الهيدروكربونات والجيش "المثير للضحك"، بينما تمتلك إيران اثنتين من أفضل كليات الهندسة الكهربائية في العالم، وقدرة هائلة على تطوير الأسلحة، فيما تمتلك تركيا عشرات الجامعات التي تدرب المهندسين وفقًا للمعايير العالمية. وإن كان مستوى التنمية في باكستان أقل، إلا أن لديها 220 مليون شخصاً ومجموعة مواهب ضخمة يمكن الاستفادة منها. وبالتالي، فإن الدول الثلاث، إضافةً إلى أذربيجان التي تعتبر إضافة محتملة للمحور الصيني، تضم 400 مليون نسمة، ما يعادل سكان العالم العربي بأسره، لكن بمستويات أعلى بكثير من التنمية الاقتصادية والتعليم.
إن حقيقة أن إيران وتركيا عدوان تاريخيان على خلفية ثلاثة قرون من الحرب العثمانية الفارسية، يخدع الاستراتيجيين الأمريكيين الذين يرون تركيا كثقل إقليمي موازن لإيران. وقد أثارت تركيا، العضو "المارق" في "الناتو"، حفيظة الولايات المتحدة من خلال شراء أنظمة دفاع جوي روسية، إلا أنها لا تزال نظريًا جزءًا من التحالف الغربي، في حين تدرك الصين أن الأعداء الدائمين يشكلون أحيانًا أفضل الحلفاء. وكما كان الحال مع فرنسا والنمسا في حرب السنوات السبع، أو روسيا وإنجلترا في الحرب العالمية، ستصبح تركيا وإيران حليفتين لأنهما يشكلان خطرًا كبيرًا على بعضهما البعض إذا بقيتا أعداء.
والآن، عرضت الصين على الأتراك والإيرانيين صفقة كبيرة مفادها: "تخلوا عن طموحاتكم الإمبراطورية وتحالفوا مع الصين، التي يمكن أن توفر لكم البنية التحتية والتكنولوجيا والتمويل لاستعادة اقتصاداتكم المتعثرة". لكن الكبرياء والتطبيق العملي يجعلان الإمبرياليين الصغار في كل من أنقرة وطهران مترددين في قبول عرض الصين.
إن الصينيين لا يتركون شيئًا على الطاولة (بل أحيانًا يأخذون الطاولة أيضًا)، لكن الانسحاب الاستراتيجي لأمريكا من المنطقة ومشاكلها الاقتصادية الملحة لم يترك لهم خيارًا يذكر؛ وأمريكا لا تحتاج إلى نفط الشرق الأوسط، لكن آسيا تحتاجه. ومثل "دون كورليوني"، فإن بكين تُبقي أصدقاءها قريبين منها وأعداءها أقرب إليها.
لقد كانت تركيا تتظاهر تقليديًا بأنها الحامية للإيغور الصينيين، وهم الشعب التركي الذين يشكلون غالبية إقليم شينجيانغ في الصين. لكن الصين قمعت تطلعات الإيغور للاستقلال بلا رحمة، بأساليب ندد بها الرئيس التركي "أردوغان" باعتبارها "إبادة جماعية" عام 2009. كما وصف وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، معاملة الصين للإيغور بـ"الإبادة الجماعية" عام 2020، بينما قامت قوات الأمن التركية بلمّ شمل المنفيين من الإيغور.
بالمقابل، وقّعت الصين على معاهدة تسليم المجرمين مع تركيا في كانون الأول/ ديسمبر، والتي لا تزال محل نظر البرلمان التركي، وإذا تم التصديق عليها فسيُطلب من تركيا ترحيل الإيغور إلى الصين. وإذا كان المرء لا يمكنه أن يكون كاثوليكيًا أكثر من البابا أو مسلمًا أكثر من الخليفة، فإن لامبالاة "أردوغان" تجاه السكان الأتراك في منطقة يسميها أحيانًا "تركستان الشرقية"، يجعل شكاوى الغرب بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانغ بلا قيمة.
ويعكس هذا الموقف ضعف "أردوغان" وتطلعاته؛ فقد انهارت العملة التركية العام الماضي ولا تزال تُتداول عند نصف مستواها في 2016 مقابل الدولار الأمريكي، وكادت البلاد أن تنهار. وخلال عام 2020، اعتمد البنك المركزي التركي على خط مبادلة بقيمة 400 مليون دولار مع بنك الشعب الصيني، ولأول مرة دفع المستوردون الأتراك ثمن البضائع الصينية بالرنمينبي (العملة الصينية). كما باعت تركيا حصة مقدارها 48% في محطة حاويات كومبورت الخاصة بها لشركة صينية، وباعت جسر السلطان يافوز سليم مقابل 688 مليون دولار لمجموعة صينية.
والأهم بالنسبة لتركيا على المدى الطويل هو "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، التي أقامت روابط سكة حديد مباشرة بين تركيا والصين، وتعِد بربط تركيا بالنمو الاقتصادي الصيني. وقد ترأس وزير النقل التركي، عادل كارا إسماعيل أوغلو، في 29 كانون الثاني/ يناير حفلًا أُقيم في محطة أنقرة للسكك الحديدية لإرسال أول قطارات شحن تركية للتصدير إلى روسيا والصين. ويمتد طريق الصين من مدينة كارس أقصى شرق تركيا، إلى العاصمة الجورجية تبليسي ثم إلى باكو عاصمة أذربيجان. كما أن هناك عددًا من السكك الحديدية أو السكك الحديدية-البحرية قيد الدراسة، لربط تركيا بآسيا الوسطى ومن ثم بشرق آسيا.
على صعيد آخر، أيّد "أردوغان" بشدة ادعاءات باكستان ضد الهند في كشمير العام الماضي، وقارن "صراع الكشميريين" بحرب الإمبراطورية العثمانية ضد الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى. لكن العلاقات الهندية التركية تدهورت بعد تسرب تقارير استخباراتية هندية، تزعم أن تركيا كانت تهيّج الأغلبية المسلمة سرًا في الهند، وأصبحت "مركزًا للأنشطة المعادية للهند" إلى جانب باكستان.
من جهة أخرى، يقول معلقون صينيون إن هناك مؤشرًا آخر على قوة تركيا المتزايدة وتعاونها مع إيران، وهو رفع الحصار الذي تفرضه السعودية على قطر، الحليف الرئيسي لتركيا في الخليج، في 4 كانون الثاني/ يناير 2021. وقد "انتهزت كل من تركيا وإيران الفرصة لتقديم المساعدة لقطر، وتوسيع تعاونهما الاقتصادي والتجاري والعسكري، ما جعل قطر أقرب إلى تركيا وإيران. ومنذ ذلك الحين، انهار مجلس التعاون الخليجي، واشتدت الانقسامات في العالم العربي، واستمر النفوذ الإقليمي لإيران وتركيا في التوسع، وتآكل القطاع العربي بشكل أكبر في الشؤون الإقليمية".
وبما أن تركيا لها نفوذ وتأثير كبيرين تتفوق بهما على السعودية؛ فإن مراقبين صينيين يرون أن تركيا قد تتدخل في اليمن إلى جانب المتمردين الحوثيين، الذين تقاتلهم القوات السعودية والإماراتية منذ عدة سنوات، بينما دعمت إيران الحوثيين وربما زودتهم بصواريخ قادرة على ضرب المدن السعودية. ويتساءل أحد المعلقين: "بعد ليبيا، هل ستهزم تركيا الإمارات في اليمن؟"، حيث دعمت كل من تركيا والإمارات أطرافًا متصارعة في الحرب الأهلية الليبية، وانتصرت تركيا.
ويشير المحلل الصيني إلى أن وسائل الإعلام الإماراتية كانت "شرسة خصوصًا في الأشهر الثلاثة الماضية، متهمةً تركيا بتأسيس تواجد لها في اليمن، لا سيما في دعم "حزب الإصلاح" الذي له صلات بجماعة الإخوان المسلمين". وتشمل المزاعم ضد أنقرة مخاوف مصر المتزايدة، مثل العمليات العسكرية التركية المزعومة في المنطقة الساحلية الجنوبية تحت ستار المساعدات الإنسانية، و"المؤامرة القطرية التركية" لإنشاء معسكرات تجنيد الميليشيات.
ويضيف التقرير الصيني: "بالطبع تركيا لديها أكبر قاعدة عسكرية خارجية وأكبر سفارة في مقديشو، عاصمة الصومال. لذلك، من الممكن منطقيًا أن تشن تركيا عملية شبيهة بليبيا في اليمن ضد القوات المدعومة من الإمارات". و"في الوقت نفسه، يجب الأخذ في الاعتبار أيضًا العلاقة المعقدة بين تركيا وإيران، حليفة الحوثي في اليمن. وقد أعربت إيران مؤخرًا عن دعمها للحكومة الليبية التي تدعمها تركيا، في حين أعربت أنقرة عن معارضتها للعقوبات الأمريكية ضد طهران".
مرة أخرى، يلاحظ المعلقون الصينيون وجود تواطؤ إيجابي بين تركيا وإيران ضد حلفاء أمريكا في الخليج الفارسي. وفي غضون ذلك، يتوقع محللون صينيون أن إدارة "بايدن" ستفشل في إنعاش الاتفاق النووي الإيراني. فقد كتب "وانغ جيان"، مدير المعهد الدولي لأكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية، في توقعاته لنهاية العام: "نظرًا لتدهور البيئة الداخلية والخارجية لإيران، فإن تركيز إيران داخليًا في ازدياد؛ فقد فاز المتشددون في الانتخابات النيابية مطلع عام 2020، كما أن اغتيال الجنرال سليماني أجبر المرشد الأعلى، خامنئي، والجيش على الانتقام، الأمر الذي سيكبح جماح روحاني وحكومته اللاحقة في التفاوض مع الولايات المتحدة، وفي الانتخابات العامة الإيرانية عام 2021، من المرجح أن يعود المتشددون".
وبمجرد وصول المتشددين إلى السلطة، فإن احتمال تجديد الاتفاق النووي الإيراني غير مرجح، حتى لو عادت الولايات المتحدة وإيران إلى طاولة المفاوضات. ومن شأن تحالف الصين المرتقب مع كل من تركيا وإيران وباكستان أن يحقق عدة أهداف:
· أولًا: سيحصر 400 مليون شخص ضمن برنامج البنية التحتية الأوراسي الصيني والتوسع التكنولوجي.
· ثانيًا: سينشئ أراضٍ متجاورة من الدول الصديقة تمتد من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط.
· ثالثًا: سيعزل حلفاء أمريكا ("إسرائيل" ودول الخليج العربي)، ويُضعف حليفًا محتملًا وهو الهند.
· رابعًا: سيساعد في احتواء المشكلات الداخلية داخل الصين نفسها، بما في ذلك وبشكل بارز الانفصاليين الإيغور في شينجيانغ.
· خامسًا: سيتخطى الولايات المتحدة ويمنح الصين نفوذًا استراتيجيًا ضد المحاولات الأمريكية لاحتوائها.
بشكل عام، ليس لدى الصين مصلحة في الحرب (رغم أنها قد لا تمانع في إراقة الدماء في شبه القارة الهندية، والتي لن يكون لها تداعيات اقتصادية). لكن آخر ما تريده الصين هو الحرب في الخليج العربي، الذي بشكل أكبر مصدر للنفط في العالم بالنسبة لها، لكن قد يكون الأمر أكثر صعوبة مما تتوقع الصين، لكبح جماح عملائها المضطربين المتعطشين للسلطة.
المصدر: آسيا تايمز