المصدر: أتلانتيك كاونسل
ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات
إلى جانب التكهنات حول وقف إطلاق النار بين "حماس" و"إسرائيل"، تتزايد التساؤلات حول مستقبل إدارة غزة؛ فمع اقتراب الصراع من عامه الثاني وصل الوضع في القطاع إلى منعطف حرج، وسط تزايد أعداد الضحايا والنازحين وعدم تلبية الاحتياجات الأساسية، في ظل ما يواجهه نظام المساعدات من تحدياتٍ بالغة. ورغم ما تتعرض له حكومة "إسرائيل" من ضغوط دولية وشعبية متزايدة، وحماس كذلك، إلا أنه لا يوجد "تصور واضح" عما قد يحدث لاحقًا.
السيناريوهات المحتملة:
بعد انتهاء الصراع، هناك أربعة سيناريوهات محتملة: إما تسليم "إسرائيل" قيادة القطاع إلى سلطة فلسطينية معدَّلة، أو تشكيل إدارة فلسطينية جديدة تُقدّم كواجهة لحكم ذاتي، أو إعادة احتلال "إسرائيلي" مباشر للقطاع (وربما إعادة توطين)، أو فراغ سياسي تحت السيطرة يمكن وصفه بأنه "استحالة استراتيجية للحكم". ونظرًا للصعوبات المرتبطة بالسيناريوهات الثلاثة الأولى، يبدو أن السيناريو الأخير سيبرز بشكلٍ تلقائي، وفيما يلي عرض لهذه السيناريوهات بشيء من التفصيل:
أولًا: تسليم "إسرائيل" قيادة القطاع إلى سلطة فلسطينية معدَّلة
أول الاحتمالات هو إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة بموجب تفويض منقّح؛ يشمل إصلاحًا مؤسسيًا ودعمًا ماليًا دوليًا وتجديدًا للتعاون الأمني مع جهات خارجية راعية، مثل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وهذا النموذج سيشبه النموذج الذي جرى تطبيقه في الضفة الغربية أوائل العقد الأول من القرن الـ21؛ حيث سعت السلطة الفلسطينية حينها، بقيادة غير أيديولوجية واعتمادًا على المساعدات الخارجية، إلى بناء مؤسسات تكنوقراطية إضافةً إلى التنسيق الأمني مع "إسرائيل" والشركاء الغربيين.
لكن ذلك النموذج تعرض لإشكاليات أعاقت تنفيذه؛ حيث لم يتم الوفاء إلا بأقل من نصف المساعدات الموعودة. والأهم من ذلك أن السلطة الفلسطينية نفسها عانت من عجزٍ مُستمر في الشرعية، تفاقم بسبب تعليق الانتخابات لأجلٍ غير مُسمى، وغياب التقدم نحو دولة فلسطينية، وتفشي الفساد في جسم السلطة، ما ساهم في تمكين "حماس" في غزة.
من جهتها، تميل الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية، بما فيها الاتحاد الأوروبي ودول الخليج، إلى تفضيل هذا الاحتمال، لأنه ينطوي على شريكٍ معروف، ويربط الحوكمة وإعادة الإعمار باستئناف المفاوضات نحو حل الدولتين. ومع ذلك، فإن هذه السيناريو تكتنفه عقبات كبيرة؛ مثل انعدام الثقة المحلية بالسلطة الفلسطينية في غزة، وعدم رغبة "إسرائيل" في تطبيقه، وإرهاق المانحين الشديد في ظل الدمار الهائل وما تتطلبه إعادة الإعمار، وبالتالي وفي ظل الظروف الحالية يظل هذا الاحتمال غير مُمكن.
ثانيًا: تشكيل إدارة فلسطينية جديدة تُقدّم كواجهة لحكم ذاتي
قد يكون البديل إنشاء حكومة فلسطينية شكلية في غزة تُنافس السلطة الفلسطينية أو تحل محلها، تُدير رسميًا الشؤون المدنية في القطاع، لكن من المرجح أن تعمل تحت إشراف "إسرائيلي"، بهدف رئيسي هو صرف الانتباه عن الضغوط الدولية. وبالتالي، ستكون لها سلطة أو استقلالية أقل واقعية من السلطة الفلسطينية.
وهناك أدلة على أن "إسرائيل" تدعم جهات فلسطينية بديلة لتوزيع المساعدات، وفرض سيطرتها على أجزاء من غزة، متجاوزةً حماس والآليات الدولية القائمة. وأشهر هذه الجهات هي الميليشيا العشائرية التي يقودها "ياسر أبو شباب"، المطلوب للمحاكمة من قبل حماس بتهمة الخيانة. وفي ذات السياق، كشف موقع "Ynet" الإخباري العبري أن مجموعتين مُسلّحتين أخريين مدعومتين من "إسرائيل" تعملان في بلدتي الشجاعية وخان يونس. وزعم الموقع أن هاتين المجموعتين تابعتان أيضًا للسلطة الفلسطينية، رغم أن أحد القادة نفى بشدة أي صلة لهما بالسلطة.
وهناك بعض السوابق المحلية لهذا النموذج؛ ففي سبعينيات القرن الماضي دعمت "إسرائيل" "روابط القرى" في الضفة الغربية كبديل مُفترض لمنظمة التحرير الفلسطينية، بهدف إنشاء قيادة محلية مُطيعة، لكن الخطة فشلت في النهاية بسبب ضعف الدعم الشعبي. وهناك أيضًا بعض أوجه التشابه مع نهج "إسرائيل" السابق المتمثل في تسهيل التحويلات النقدية القطرية إلى "حماس" بنحو حوالي 30 مليون دولار شهريًا بين عامي 2018 و2023، كوسيلة لإضعاف السلطة الفلسطينية من خلال دعم منافستها في غزة.
لكن من المرجح ألا يثبت هذا السيناريو طويلًا؛ لأنه لن يحل الأزمة السياسية المستعصية، كما إنه يفتقر إلى الشرعية، ومن المتوقع أن يُثني عن استمرار المشاركة الدولية (التي ستواصل التركيز على السلطة الفلسطينية)؛ وسيُشكل هدفًا لتمرد مُتجدد.
ثالثًا: إعادة احتلال غزة
إذا فشلت البدائل، قد تُقْدِم "إسرائيل" على فرض سيطرة عسكرية وإدارية كاملة على غزة، ربما كإجراء أمني مؤقت يتحول إلى احتلال مفتوح، سيُشبه ما كان عليه الوضع خلال الفترة 1967-2005، لكن في ظل ظروف أكثر عدائية وتدهورًا.
عمليًا، سيشمل هذا السيناريو وجودًا عسكريًا ثابتًا في جميع أنحاء القطاع، يتحكم في البنية التحتية والأمن وتوزيع الموارد والإدارة من خلال سلطة مدنية، ومن المرجح أن تقوم القوات "الإسرائيلية" بدوريات في الشوارع للمحافظة على النظام العام. وستكون "إسرائيل" مسؤولة قانونيًا عن معيشة السكان الفلسطينيين، بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، لكنها على الأرجح ستقمع الحقوق السياسية والمدنية للفلسطينيين بشدة.
في الواقع، قد ترضخ حكومة "إسرائيل" لضغوط الأحزاب اليمينية، حتى من داخل حزب "الليكود" الذي يتزعمه "نتنياهو"، وكذلك أعضاء الائتلاف اليميني المتطرف، لإعادة إنشاء مستوطنات يهودية فقط في المنطقة، على خلفية النزوح "الطوعي" للفلسطينيين. فمن جانبهم، أبقى المسؤولون "الإسرائيليون"، بمن فيهم "نتنياهو"، على درجة من الغموض حول ما إذا كانت إعادة احتلال غزة هدفًا أم يمكن أن تصبح كذلك. ومن المؤكد أن الوعد بـ"البقاء" في القطاع حتى لا يعود مصدر تهديد تجاه "إسرائيل" قد يصبح بلا نهاية. كما أن تأييد "نتنياهو" الحماسي لـخطة "ترامب" لإعادة توطين فلسطينيي غزة في أماكن أخرى وإعادة بناء منازلهم بشكل أفضل قد يشير أيضًا إلى هذا الاتجاه.
بالمقابل، من المؤكد أن يثير ذلك إدانة دولية، لا سيما من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية، لكن إذا دعمت الولايات المتحدة "إسرائيل"، فمن المرجح أن يكون لها تأثير محدود؛ حيث تشير السوابق المشابهة، بما في ذلك توسيع المستوطنات في الضفة الغربية رغم الانتقادات الدولية المستمرة، إلى أن المعارضة الخطابية وحدها لا يُرجح أن تغير السياسة "الإسرائيلية".
مع ذلك، فإن التكاليف الاقتصادية الباهظة، لا سيما إذا فكر الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات أو عكست الدول العربية مسار "التطبيع"، قد تجعل هذا الخيار غير جذاب لـ"إسرائيل". فقد كان الانسحاب "الإسرائيلي" عام 2005 مدفوعًا بعوامل متعددة، ليس فقط التكاليف الأمنية والاقتصادية المرتفعة للاحتلال، لكن أيضًا تزايد ملوحة الأرض التي تؤثر سلبًا على الزراعة، ولم يتضاءل أي من هذه التكاليف منذ ذلك الحين.
رابعًا: فراغ سياسي تحت سقف السيطرة
إن هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا ويمكن وصفه بـ"عدم القدرة على الحكم الاستراتيجي"؛ وهو وصف لحالة متعمدة أو مقبولة لا يُسمح فيها لأي سلطة حاكمة بالظهور، كوسيلة لترسيخ سلطة الاحتلال. وبالتالي، إذا لم يُسمح لأي هيكل إداري بالعمل، ولم يظهر أي مسار موثوق للاستقرار السياسي، فإن الفراغ الناتج في السلطة قد يترك غزة في حالة من الفوضى المستمرة. وعليه، فإن غياب أي سلطة بديلة قد يصب في صالح "إسرائيل" دون تكاليف ومسؤوليات باهظة للاحتلال الرسمي.
عمليًا، إن التدمير الممنهج للبنية التحتية من قِبل "إسرائيل"، واستهداف المؤسسات المدنية، ورفض قبول شرعية الفصائل السياسية الفلسطينية القائمة أو الجهات الدولية الفاعلة مثل "الأونروا"، قد بدأ بالفعل في خلق مثل هذه البيئة. وإذا استمر الوضع الراهن وأصبح وضعًا طبيعيًا، فلن يكون المانحون الدوليون مستعدين للاستثمار، ولن تتمكن الجهات الفاعلة المحلية من التنظيم، خوفًا من الأعمال الانتقامية من جهة أو أخرى، وسيستمر تدفق الإغاثة الإنسانية عبر القنوات العسكرية.
وهذه ليست استراتيجية رسمية بل عودة إلى الوضع الافتراضي، وبالتالي فهي لا تحتاج إلى إطار إداري فعال؛ بل ستستمر من خلال استمرار رفض (أو فشل) البدائل السياسية، والحفاظ على المحيط الأمني القائم، الذي يعزل غزة عن الأنظمة الإقليمية والعالمية. فبتجنب الضم الرسمي، ستحدّ "إسرائيل" من التداعيات القانونية ومن مسؤوليتها عن النتائج الكارثية تجاه القطاع. ومع ذلك، من خلال تشجيع التفتيت ضمنيًا، فإنها ستعيق أيضًا التنظيم السياسي الداخلي أو التمثيل أو التسوية بين الفصائل، وسيتحمل المدنيون والمؤسسات الإنسانية القليلة القادرة على العمل في تلك البيئة تكاليف هذه السياسة، بدلًا من "قوة الاحتلال".
التوقعات:
تظل جميع هذه السيناريوهات ممكنة، ولا يوجد أي منها حتمي حتى الآن؛ فالمنطق السائد لما بعد الصراع، والذي شكل ردود الفعل الدولية السابقة، هو أن الحرب تنتهي بالتفاوض، وأن المفاوضات تؤدي إلى إعادة الإعمار، وأن إعادة الإعمار تدعم الاستقرار السياسي، وهذا من شأنه أن يشير إلى عودة السلطة الفلسطينية أو واجهة من الحكم الذاتي، لكن ربما يكون هذا المنطق قد انهار في حالة غزة.
في الوقت نفسه، فإن انجراف البلاد نحو اليمين يعني أن السياسة الداخلية "الإسرائيلية" تتجه أكثر نحو إعادة الاحتلال الرسمي، رغم أن هذا سيكون مكلفًا للغاية وسيمثل مشكلة دبلوماسية ويشكل عبئًا إداريًا. لذلك، يبدو من المرجح بشكل متزايد أن "عدم القدرة على الحكم الاستراتيجي" قد يظهر كخيار افتراضي، يسهله التقاعس "الإسرائيلي" والدولي، ويمكن أن يكون مدفوعًا بالعوامل التالية:
· مستوى الدمار الهائل في غزة
· عدم استعداد "إسرائيل" لقبول أن تصبح غزة مصدرًا لتهديد حدودها مجددًا
· إخفاقات السلطة الفلسطينية
· رفض "إسرائيل" أي تقدم نحو الحكم الذاتي الفلسطيني، ما يُسهم في غياب عملية السلام
والخلاصة، إن هذا السيناريو، على ما يبدو، يعكس التقاء الهيمنة العسكرية "الإسرائيلية" والجمود السياسي الفلسطيني والإرهاق الدبلوماسي الدولي، لكنه يُمثل احتمالًا قاتمًا على المدى الطويل بالنسبة لفلسطينيي غزة.