مستقبل التطبيع بين أندونيسيا و"إسرائيل"... جاكرتا ستظل عالقة بين المخاوف من ردود الفعل الجماهيرية الغاضبة والإغراءات الخارجية

الساعة : 10:52
1 نوفمبر 2025

المصدر: أتلانتك كاونسل

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

عندما ظهرت مؤخرًا تقارير تفيد باحتمال زيارة الرئيس الإندونيسي، برابوو سوبيانتو، إلى "إسرائيل" راجت تكهنات بأن جاكرتا تخطو أولى خطواتها نحو الانضمام إلى "اتفاقيات أبراهام"، وتمهد الطريق لإعادة ترتيب دبلوماسية تاريخية. وقد جاءت هذه التقارير وسط تفاؤل حذر في الشرق الأوسط، عقب وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" وحماس وإطلاق سراح الأسرى، بأن الدبلوماسية قد تنجح فيما فشلت فيه الحرب. لكن بعد ساعات من ظهور أولى هذه التقارير، نفت جاكرتا بشدة هذا الادعاء، وأكدت دعمها الراسخ للفلسطينيين.

وقد أبرزت هذه الحادثة مدى سرعة إعادة رسم الخريطة الدبلوماسية في الشرق الأوسط منذ بدء وقف إطلاق النار، وكشفت الضغوط والفرص التي تواجه دولًا مثل إندونيسيا، وهي تتنقل بين الرأي العام المحلي والتضامن الإسلامي وبين نظام عالمي متغير، تُشكله واشنطن في عهد "ترامب". وإذا أُديرت هذه العلاقة بعناية، فقد تُعيد تشكيل اقتصاد كل من "إسرائيل" وإندونيسيا وتطلعاتهما الاستراتيجية، لكن هذه الفرص مُقيدة بمخاطر سياسية واجتماعية عميقة.

من الابتعاد إلى المشاركة السرية:

منذ استقلالها لم تُحافظ إندونيسيا على أي علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل"، ما يعكس انحياز جاكرتا للقضية الفلسطينية وروح دستورها المناهض للاستعمار. فقد كان مؤسس إندونيسيا، سوكارنو، ينظر إلى "إسرائيل" من منظور الاستعمار؛ حيث رفض استضافة فريق "إسرائيل" في دورة الألعاب الآسيوية عام 1962 في جاكرتا، بل انسحب من تصفيات كأس العالم عام 1958 بدلًا من مواجهة المنتخب "الإسرائيلي". وأكد القادة المتعاقبون أن العلاقات الدبلوماسية لن تُقام إلا بعد استقلال فلسطين، ولا يزال التعاطف الشعبي في إندونيسيا مع الفلسطينيين قويًا، متأثرًا بهوية البلاد الإسلامية وعقود من حملات التضامن.

رغم ذلك، ظلّ هذا الخطاب قائمًا مع استمرار المشاركة الهادئة؛ ففي عهد ثاني رئيس للبلاد وأطولهم خدمة، سوهارتو، حافظت إندونيسيا على علاقات عسكرية واستخباراتية سرية مع "إسرائيل" في السبعينيات والثمانينيات، حيث حصلت على الأسلحة والتدريب عبر وسطاء. وقد حاولت إندونيسيا في بعض الأحيان اختبار الانخراط المحدود؛ حيث اتقرح الرئيس السابق، عبد الرحمن وحيد، علاقات تجارية عام 1999، لكن كل مبادرة كانت تواجه برد فعل عنيف محليًا. وعام 2005 ظهرت تقارير عن اجتماع سري بين مسؤولين "إسرائيليين" وإندونيسيين على هامش الأمم المتحدة، لكن الرئيس "سوسيلو بامبانج يودويونو" استبعد على الفور العلاقات الرسمية "حتى ينال الشعب الفلسطيني الاستقلال". وبالمثل، رفض الرئيس السابق، جوكو ويدودو، اقتراح التطبيع الذي قدمه "نتنياهو" عام 2016، وأصر على إقامة دولة فلسطينية أولًا. ولطالما منعت المشاعر العامة المتجذرة في الشعب الإندونيسي أخلاقيًا ودينيًا قادة البلاد من الانفتاح على المشاركة العلنية مع "إسرائيل".

لكن رغم الجمود السياسي، استمرت العلاقات التجارية والسياحية المحدودة؛ حيث تتبادل الشركات الإندونيسية والإسرائيلية أنشطة تجارية بشكل غير مباشر، فقد وصل معدل التجارة الثنائية إلى مئات الملايين من الدولارات سنويًا. كما ازدهرت السياحة بهدوء، رغم تراجعها منذ بدء الحرب في غزة، وفقًا لأخبار السفر الإسرائيلية. ففي عام 2018، على سبيل المثال، زار أكثر من 37000 إندونيسي، معظمهم من الحجاج، الأماكن المقدسة في القدس رغم عدم وجود علاقات رسمية. وتعكس هذه التبادلات فضولًا متبادلًا تحت العداء الرسمي، مع تعمد المحافظة على مستوى منخفض لتجنب رد الفعل العنيف محليًا.

سياسة "ترامب" وبراغماتية "برابوو":

والسؤال: لماذا يأتي الحديث عن الانفتاح الإندونيسي على الولايات المتحدة و"إسرائيل" في هذا التوقيت؟ والجواب أنه قد تضافرت ثلاثة تطورات لخلق انفتاح دبلوماسي بين إندونيسيا و"إسرائيل":

1.     فتح وقف إطلاق النار في غزة مساحة دبلوماسية، حيث أوقفت الهدنة سنوات من الحرب، وسمحت بتدفق المساعدات الإنسانية. وقد أشادت إندونيسيا بهذا واعتبرت أنها خطوة حاسمة نحو السلام، وعرضت المساعدة في إعادة إعمار غزة. ففي ظل تنافس القوى الإقليمية على النفوذ عقب الصراع، ربما أدركت جاكرتا أن المشاركة، بدلًا من العزلة، يمكن أن تدعم بشكل أفضل التعافي الفلسطيني وتسمح لإندونيسيا بلعب دور بناء في عملية السلام. الآن، عرضت حكومة "برابوو" القيام بدور أكبر والمساعدة في إعادة إعمار غزة، مؤكدةً أن الحل العادل يتطلب أمن "إسرائيل" والسيادة الفلسطينية.

2.     أحيت عودة "ترامب" دبلوماسية التطبيع؛ حيث أعادت إدارة ترامب الجديدة على الفور العمل على "اتفاقيات أبراهام"، معتبرةً السعودية وإندونيسيا هدفين للتطبيع من الدرجة الثانية. وقد أفادت التقارير بأن واشنطن عرضت حوافز، منها دعم انضمام إندونيسيا إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية "OECD"، والذي يتطلب موافقة جميع الدول الأعضاء، من بينها "إسرائيل". وقد ربطت التقارير الصادرة عام 2024 بالفعل تواصل جاكرتا الهادئ مع "إسرائيل" بهذه الحوافز. والآن، ومع عودة "ترامب" إلى السلطة وعزمه على تقديم "صفقة قرن" أخرى، تتوافق إندونيسيا مع الأهداف الاستراتيجية لواشنطن.

3.     براغماتية "برابوو"؛ رغم تعهده سابقًا بعدم التطبيع قبل الاستقلال، قد يرى "برابوو" في التواصل مع "إسرائيل" وسيلةً لتحقيق هذا الهدف، المتمثل بالاعتراف بأمن "إسرائيل" كشرط أساسي لقيام الدولة الفلسطينية. وقد أشارت تقارير إعلامية إقليمية إلى أن "برابوو" وافق بحذر على زيارة "إسرائيل"، وهو ما كان سيُمثل مغامرة سياسية جريئة، ومن المرجح أن تُتاح له بفضل بناء ائتلاف مدروس في الداخل. ومع سيطرة ائتلافه "إندونيسيا المتقدمة" على البرلمان، فإنه يتمتع بمساحة واسعة للمغامرة السياسية. كما إن احتمال التوصل لوقف إطلاق نار مستدام ودعم الولايات المتحدة لعملية التطبيع قد يوفران غطاءً إضافيًا لمخاطرته السياسية.

فرص ومخاطر على طريق التطبيع

بصفتها قوةً في مجموعة العشرين يبلغ عدد سكانها 280 مليون نسمة، تُمثل إندونيسيا سوقًا ضخمةً وغير مُستغلة للابتكارات "الإسرائيلية" في الزراعة والصحة والتكنولوجيا، بينما تُصدر سلعها الخاصة بالمقابل. ومن المُرجح أن تزدهر السياحة، ما يُمكّن مزيدًا من الإندونيسيين من زيارة الأماكن المقدسة في القدس، و"الإسرائيليين" من قضاء عطلاتهم في بالي، ومن شأن هذا التواصل الشعبي أن يُعيد تشكيل المواقف العامة تدريجيًا ويُعزز الألفة الثقافية.

ورغم غياب العلاقات الرسمية، تشترك إندونيسيا و"إسرائيل" في عقود من التعاون السري، وقد يكون الانتقال إلى التعاون العلني مفيدًا لكلا الجانبين؛ فـ"إسرائيل" تُقدم خبرةً في الأمن السيبراني ومكافحة الإرهاب وتكنولوجيا الدفاع، بينما تُوفر إندونيسيا موطئ قدم استراتيجي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ومن شأن التدريب المشترك أو تبادل المعلومات الاستخباراتية أن يُساعد في مُعالجة التهديدات المُتبادلة من التطرف وعدم الاستقرار الإقليمي.

على الصعيد الدبلوماسي، يُمكن أن يُعزز الحوار مع "إسرائيل" مكانة إندونيسيا العالمية، كديمقراطية إسلامية براغماتية قادرة على التوسط بين العالم الإسلامي والغرب، خصوصًا من خلال تعزيز العلاقات مع واشنطن. بالنسبة لـ"إسرائيل"، فإن التواصل مع جاكرتا يُضفي شرعيةً ويُخفف من حدة الانتقادات في المحافل متعددة الأطراف، مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا ومنظمة التعاون الإسلامي، مع إمكانية فتح أبواب حوار مستقبلي مع ماليزيا وبروناي.

لكن الرأي العام الإندونيسي ما زال مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالقضية الفلسطينية، وقد أظهر استطلاع للرأي أُجري في حزيران/ يونيو الماضي أن 80% من الإندونيسيين يحملون آراءً سلبية تجاه "إسرائيل". وبالتالي، فإن أي تقارب علني قد يُشعل احتجاجاتٍ جماهيريةً وردود فعلٍ عنيفة من رجال الدين، ما يُقوّض شرعية "برابوو" المحلية.

خارجيًا، فإن التسرّع في التحرك يُهدد بإجهاد دور جاكرتا القيادي في العالم الإسلامي، ويُثير انتقاداتٍ من القوى الإقليمية المُعارضة للتطبيع، مثل قطر وتركيا وإيران، التي ما زالت تُناصر القضية الفلسطينية. وعلى الجانب "الإسرائيلي"، قد يُؤدي الكشف المُبكر أو التفاخر، من خلال التسريبات أو الادعاءات السياسية العلنية، إلى عرقلة سنواتٍ من التواصل الهادئ، وإعادة إشعال العداء في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا، ما يُعرّض الانفتاح الإقليمي الذي استغرق بناؤه عقودًا للخطر.

في نهاية المطاف، لن يأتي انخراط إندونيسيا مع "إسرائيل" بين عشية وضحاها، لكن إذا أُدير بعناية فقد يُحوّل أكبر دولة إسلامية في العالم من مراقب بعيد إلى باني جسور في الشرق الأوسط. فقد فتح وقف إطلاق النار نافذة دبلوماسية ضيقة؛ فإذا كان هذا الاتفاق سيصبح الأساس للتطبيع الدائم سوف يعتمد على مدى تحلي كل من "إسرائيل" وإندونيسيا بالبراجماتية، وقبل كل شيء الشجاعة.