المصدر: أتلانتك كاونسل
ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات
في أعقاب التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة في الـ13 من أكتوبر/ تشرين الأول في شرم الشيخ، شهد الشرق الأوسط فرصة نادرة لإعادة تشكيل الإقليم؛ حيث تراجعت حدة القتال لكن الترتيبات الإقليمية ظلت هشة. فبالنسبة للغرب وحلفائه، يتمثل التحدي الأساسي في ضمان التزام "إسرائيل" وحماس بوقف إطلاق النار وبـ"خطة النقاط العشرين" التي طرحتها إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بوصفها أساسًا لإرساء استقرار طويل الأمد.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى إدماج تركيا في المسار الاقتصادي والدبلوماسي بوصفه امتدادًا طبيعيًا لـ"اتفاقيات أبراهام"، التي أنشأت إطارًا للتعاون الإقليمي؛ فكلما توسعت عملية شرم الشيخ لتشمل تنسيقًا أمنيًا واقتصاديًا مع تركيا، كلما زادت فرص تحوّل وقف إطلاق النار إلى بوابة لترتيب إقليمي شامل. فقد شكّلت قمة شرم الشيخ، التي نُظمت بمبادرة من الولايات المتحدة، إنجازًا دبلوماسيًا مهمًا بعد عامين من الحرب؛ حيث جمعت أطرافًا إقليمية ودولية حول تثبيت وقف إطلاق النار، وإنشاء آلية لإعادة إعمار غزة، وتصور بنية تحتية للتعاون الإقليمي. وأرسلت مشاركة تركيا، حتى وإن لم تكن وسيطًا رئيسيًا، رسالة مهمة مفادها أن أنقرة غير مستعدة لأن تُقصَى عن السياق الإقليمي. فقد شدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على التزام بلاده بإعادة الإعمار الإنساني، والتعاون في مجال الطاقة، والتنسيق الاقتصادي الإقليمي، وكلها أهداف تتماشى لحد كبير مع روح "اتفاقيات أبراهام"، التي تهدف لتحويل الخصومات إلى شراكات إقليمية.
رغم ذلك، فإن الواقع السياسي معقّد؛ فالعلاقات بين تركيا و"إسرائيل" تمر بأدنى مستوياتها على الإطلاق، وفي الداخل التركي تصاعد الضغط الشعبي ضد "أردوغان"، مطالبًا إياه باتخاذ موقف متشدد عقب حرب غزة. وقد انعكس ذلك في الانتخابات المحلية التي جرت في مارس/ آذار 2024، التي حقق فيها حزب المعارضة الرئيسي، "حزب الشعب الجمهوري"، مكاسب كبيرة، وفي ظل هذا الضغط اتخذت أنقرة قرارًا بتعليق التجارة مع "إسرائيل" في أغسطس/آب الماضي. لكن الجدير بالذكر أنه خلال فترات التوتر السابقة، صمدت العلاقات التجارية بين البلدين خصوصًا في مجال الطاقة بفعل المصالح المتبادلة؛ فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما خلال عام 2023، ما جعل تركيا واحدة من أكبر خمسة شركاء تجاريين لـ"إسرائيل".
واليوم، ومع انفتاح نافذة دبلوماسية جديدة، تبرز الفرصة لإعادة العلاقة إلى مسار براغماتي في إطار رؤية أوسع للتكامل الإقليمي؛ فإدماج تركيا في المبادرات المرتبطة بـ"اتفاقيات أبراهام" ومشروعات البنية التحتية العابرة للحدود، مثل منتدى غاز شرق المتوسط والصيغ المستقبلية لمشروع ممر الهند "الشرق الأوسط–أوروبا" (IMEC)، من شأنه أن يخلق مصالح اقتصادية متداخلة تحدّ من المواجهة وتعزز الحوار. أما عدم إشراك تركيا، فيحمل خطر تكريس مخططات تكامل تنافسية بدلًا من التقارب نحو إطار تعاوني واحد، وقد جاء رد فعل تركيا على استبعادها من مشروع "IMEC" في صورة توجه نحو موسكو وطهران وبكين للتعاون في مسارات النقل والطاقة.
في هذا الإطار، تقع المسؤولية أيضًا على عاتق الغرب؛ فالتعامل البنّاء مع تركيا لا يعني تأييدًا كاملًا لسياساتها، بل اعترافًا بأهميتها لاستقرار المنطقة. وبالتالي، ينبغي على الغرب أن يعمل على إدماج أنقرة في مبادرات إعادة إعمار غزة، وتطوير مسارات النقل، والمشاريع المشتركة في مجال الطاقة. ويمكن لهذا النهج أن يمنع التفتت الاقتصادي، ويعزز منطق التعاون الذي انبثقت عنه "اتفاقيات أبراهام"، وعمليًا تعتبر هذه فرصة لتحديث اتفاقيات عام 2020، وتحويلها من إطار تطبيع ثنائي إلى ترتيب متعدد الأطراف للتكامل الإقليمي.
لكن يظل التحدي الجوهري هو الثقة؛ فتركيا تسعى لضمان عدم دفعها إلى الهامش، في حين تخشى "إسرائيل" والدول العربية الموقعة على "اتفاقيات أبراهام" من النفوذ التركي المفرط. وهنا، يتعين على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج انتهاج دبلوماسية دقيقة مع تركيا، ويمكن للتعاون الموجّه في المجالات الاقتصادية والمدنية والطاقة الخضراء والمياه والرقمنة والبنية التحتية، أن يوفر منصة لبناء الثقة تدريجيًا. كما إن إشراك تركيا في مثل هذه المبادرات سيعزز رسالة الشركاء إلى الفلسطينيين بأن إعادة إعمار غزة ليست مشروعًا "إسرائيليًا"–غربيًا فحسب، بل جزء من ترتيب إقليمي أوسع، وسيعزز الرسالة الدولية للفلسطينيين أيضًا بأن إعادة إعمار غزة تندرج ضمن إطار إقليمي شامل، وليست مبادرة أحادية الجانب.
وقد أظهرت تجربة "اتفاقيات أبراهام" أن فتح قنوات الاتصال والتجارة بين خصوم سابقين يخلق آليات للضبط المتبادل؛ ومن هذا المنطلق فإن إدماج تركيا في دائرة الدول المشاركة في هذه الاتفاقيات يعتبر خطوة طبيعية وضرورية. إضافةً إلى ذلك، فإن حضور تركيا في المشاريع الإقليمية سيضيف بُعدًا جيوسياسيًا أساسيًا إلى منظومة الاتفاقيات، بما يوازن علاقات أنقرة الجيوسياسية مع إيران ويسهم في تعزيز الشرعية الأوسع في العالم العربي. ومن هنا، فإن للغرب والولايات المتحدة و"إسرائيل" ودول الخليج مصلحة واضحة في إشراك تركيا، ليس بوصفها خصمًا بل شريكًا إقليميًا. كما إن التعاون الاقتصادي مع أنقرة يمكن أن يشكّل محركًا للنمو وركيزة للاستقرار السياسي، وفي الوقت ذاته يعزز المنطق الاستراتيجي لـ"اتفاقيات أبراهام" ويمنع تحوّل الموقّعين عليها إلى نادٍ مغلق يفرز خطوط انقسام جديدة.
بالمحصلة، يتطلب الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب آليات جديدة للتعاون؛ فإدماج تركيا في هذا الإطار، بوصفها شريكًا متكافئًا لا طرفًا ينبغي احتواؤه، قد يحوّل "اتفاقيات أبراهام" إلى نسخة متقدمة من التكامل الإقليمي، تكون فيها إعادة إعمار غزة والطاقة وربط شبكات النقل، عناصر محورية تُستخدم كرافعة لتعاون حقيقي. وإذا اعتمد الغرب وحلفاؤه هذا النهج، فسيُذكر اتفاق شرم الشيخ لا باعتباره مجرد وقف لإطلاق النار، بل بوصفه الخطوة الأولى نحو شرق أوسط أكثر تكاملًا واستقرارًا وازدهارًا.