التدخلات في النزاعات المسلحة ... تراجع الهيمنة الغ

التدخلات في النزاعات المسلحة ... تراجع الهيمنة الغربية مع تزايد أعداد الدول القوية

الساعة : 15:30
8 نوفمبر 2021

المصدر: المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية
ترجمة: مركز صدارة للمعلومات والاستشارات
الرابط: لقراءة وتحميل الترجمة / اضغط هنا

كان أحد أبرز الاتجاهات الجيوسياسية في السنوات الخمس الماضية تزايد عدد الدول التي تتدخل وتشكل الصراعات، لتعزيز سياساتها الخارجية وأجنداتها الاستراتيجية؛ فما كان في الماضي حكرًا على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الغربيين في حقبة ما بعد الحرب الباردة وما بعد أحداث الـ11 من أيلول/ سبتمبر، أصبح اتجاهًا عامًّا مع قوى مثل إيران و"إسرائيل" وروسيا والسعودية وتركيا والإمارات، حيث تدخلت تلك الدول في صراعات عديدة حول العالم.

وقد اتخذت هذه التدخلات أشكالًا متنوعة تراوحت بين الاستخدام الغارات الجوية بعيدة المدى إلى نشر قوات التدخل السريع البرية والبحرية. وفي حين أن البعض كانت عملياته تتم بشكل أحادي تجنبًا "للتدقيق الدولي"، سعى البعض الآخر إلى شرعنة أوسع لهذا التدخل من خلال "تحالف الراغبين"، مثل تدخل السعودية في الحرب في اليمن. وقد دعم معظمهم الحلفاء المحليين أو الشركاء أو الوكلاء، بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة لعملية التدخل، حيث ظهر هذا الاتجاه بشكل كامل في العديد من النزاعات المسلحة عام 2020 وأوائل عام 2021.

الصراعات المسلحة وسط التغيرات الجيوسياسية

لم تتغير طبيعة الحرب بشكل جذري في السنوات الأخيرة لأن النزاعات لا تزال في الغالب على مستويات محلية، حيث تلعب فيها الجماعات المسلحة غير النظامية دورًا بارزًا، كما لا تزال الحروب المعلنة بين الدول نادرة. لكن الذي تغير هو السياق العالمي متعدد الأقطاب بشكل لافت، والذي تدور فيه تلك النزاعات المسلحة. وفي هذا الإطار، تحاول دول قوية أخرى، إلى جانب الولايات المتحدة، إنهاء أو التأثير على نتائج الحروب الخارجية لتعزيز أهدافها القومية الخاصة.

ومقارنةً بذروة القطبية الأحادية التي تميزت بالتدخلات في البلقان وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، أصبحت هيمنة الولايات المتحدة تتشتت تدريجيًا، حيث بدأ التحوّل تحت إدارة "باراك أوباما" (2009-2017) واستمر في عهد خليفته "دونالد ترامب" (2017-2021)، الذي أعرب عن ازدرائه لتدخل الولايات المتحدة في حروب خارجية وسط شعور عام بالامتعاض من تلك الحروب على المستوى المحلي. ورغم ذلك، فقد كانت هناك استثناءات، منها الدور الأمريكي في "هزيمة" تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في الشرق الأوسط، والوجود العسكري الأمريكي الذي رافق جهود التوسّط في إنهاء الحرب في أفغانستان قبل انسحابها العسكري من هناك.

وظلت المهمات العالمية لمكافحة الإرهاب من أولويات الولايات المتحدة، وإن كانت بشكل عسكري أقل من التدخلات السابقة. ورغم ذلك، تحولت أولويات السياسة الخارجية والدفاعية للولايات المتحدة نحو "منافسات القوى العظمى" مع الصين وروسيا، إلى جانب احتواء إيران وكوريا الشمالية. كما أَوْلَت الولايات المتحدة أهمية كبيرة للردع التقليدي والنووي والسيبراني، فضلًا عن سياسات التحالف ودبلوماسية الدفاع في مناطق النزاع الاستراتيجي.

إضافةً لذلك، لم يكن "ترامب" مهتمًا بإلقاء اللوم على التدخلات العسكرية للدول الأخرى، طالما أن هذه التدخلات لا تضر بالمصالح الأساسية لإدارته، وهو الموقف الذي فتح مساحة إضافية تملؤها القوى المتمددة الأخرى. لكن رئاسة "بايدن" دفعت لوقف هذا الانحراف في السياسة في حالة واحدة؛ ففي شباط/ فبراير 2021 أعلن "بايدن" نهاية الدعم الأمريكي للعمليات الهجومية للحرب في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة، في إشارة واضحة إلى السعودية. ومع ذلك، فإن توجيه اللوم إلى دولة تتمتع بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة بشأن تدخلها العسكري هي حالة وحيدة، ويبقى أن نرى إلى أي مدى ستظل الولايات المتحدة قادرة على تأكيد نفوذها في النزاعات المسلحة الأخرى وراغبة في ذلك.

الآثار المترتبة على حل النزاعات

إن التدخلات العسكرية هنا تُفهم على أنها تنطوي على عمليات عسكرية متواصلة، تقاتل فيها القوات المسلحة التابعة للدولة بشكل مستقل، أو تزيد أو تحل بالكامل محل القوة القتالية لفصيل أو أكثر من الفصائل المتحاربة. وتتميز هذه التدخلات بقوات استكشافية في عمليات معلنة، أو عمليات قتالية يتم إجراؤها عن بعد، ويمكن أن تشمل عمليات معلنة أو غير معلنة. وتختلف هذه عن مهام التدريب أو دعم السلام، وعن بيع المعدات العسكرية، رغم أنها قد تشمل مثل هذه الأنشطة.

ومع قيام مجموعة كبيرة من الدول بتدخلات في النزاعات المسلحة، اكتسب بعضها حصصًا كبيرة في التوسط في اتفاقات وقف إطلاق النار واتفاقات السلام، سعيًا لتحقيق مصالحها الوطنية، وغالبًا ما تتحايل على أو تتجاهل الدول الغربية والأمم المتحدة.

إن وجود دول متدخلة قوية له تداعيات على الهيئات متعددة الأطراف المشاركة في حل النزاعات، وقد سلطت القضية السورية الضوء على الانتكاسات التي يواجهها مجلس الأمن الدولي "UNSC" كمنتدى لإنهاء النزاعات المسلحة؛ حيث استخدمت روسيا حق النقض "الفيتو" لحماية نظام "الأسد" واستمرار منع القرارات التي تدعو لإجراء تحقيقات في استخدام الأخير للأسلحة الكيماوية. كما إن هيئات حل النزاعات الإقليمية تتأثر أيضًا، لا سيما عندما تشارك الدول الأعضاء الرئيسية في القتال.

وتعتبر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا "OSCE" مثالًا وثيق الصلة؛ ففي حين لا تزال المنظمة منصة لإدارة نزاعات ناغورنو كاراباخ وأوكرانيا، يمكن للدول المتدخلة، روسيا وتركيا، ممارسة نفوذها وفقًا لأولوياتهما الوطنية. ففي أوكرانيا وافقت روسيا على اختصاصات بعثة المراقبة الخاصة التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا "SMM"، ورغم ذلك، لن تؤيد موسكو أبدًا مهمة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي تتعارض مع مصالحها الوطنية في البلاد. وفي إقليم ناغورنو كاراباخ، ورغم أن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا استمرت في المحادثات لمدة 30 عامًا، إلا أن تركيا وروسيا كانتا قادرتين على الانحياز للعملية عند متابعة اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020.

توقعات

في عصر احتدام المنافسة بين الدول، يعد تطور تدخلات النزاع المسلح من قبل الدول القوية اتجاهًا مهمًا يجب اتباعه؛ حيث تشير الأدلة حتى الآن إلى تزايد كبير في عدد الدول القوية المستعدة والقادرة على التدخل، وإن كان ذلك بنتائج متفاوتة.

لقد بدأ استنزاف وإجهاد السعودية من تدخلها في اليمن نتيجة تصدع تحالفها إضافة إلى فقدان الدعم الأمريكي والفشل في تأمين نتيجة حاسمة. ويبدو أن القوى المتدخلة الأخرى قد تعلمت دروسًا مفيدة من مراقبة التدخلات التي تقودها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، والتي تضمنت عمليات انتشار كبيرة على الأرض. فقد تجنبت روسيا حتى الآن هذه الظروف من خلال تدخلاتها الخاصة، ولا شك أنها استندت أيضًا إلى حكمة التدخل السوفيتي الفاشل سابقًا في أفغانستان.

لكن بالمقابل، يبدو أن تركيا قد شنت تدخلًا سريعًا نسبيًا في حرب ناغورنو كاراباخ، رغم أن تدخلها في ليبيا قد يكون غير حاسم نظرًا لتعقد الصراع ومشاركة جهات خارجية متعددة. لكن تدخلاتها في العراق وسوريا تشير إلى استمرار حربها طويلة الأمد والمستعصية ضد "حزب العمال الكردستاني"، والتي يبدو أنها ستلتزم بها على المدى الطويل.

إن الاتجاهات السائدة تشير إلى أن الظروف الجيوسياسية قد تدفع المزيد من القوى الجيوسياسية الكبرى إلى التدخل؛ وإن كانت الصين لا تزال غائبة بشكل بارز عن القائمة رغم تاريخها الحافل بالحروب الحدودية، إلا أنها تفتقر إلى خبرة كبيرة في الحروب الاستكشافية، سواءً في العصر الحديث أو العصر الإمبراطوري، بعد أن تجنبت شن حرب استعمارية بعيدًا عن محيطها المباشر. كما تعتبر الهند غائبة أيضًا؛ فبصرف النظر عن محاربة باكستان بشأن كشمير المتنازع عليها، فإن سابقتها الوحيدة هي تدخلها الفاشل في الحرب الأهلية في سريلانكا في الثمانينيات.

وبينما تساهم كل من الصين والهند بأفراد في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، لكن يبدو أنهما تفتقران إلى الرغبة في تصعيد التدخلات لتحقيق الأهداف القومية، ومن الصعب افتراض وجود ظروف تؤدي لتغير ذلك. ومن باب التخمين، إذا تم إرسال القوات الصينية أو الهندية لتحقيق الاستقرار مستقبلًا في أفغانستان أو ميانمار، فإن الأدلة الحالية تشير إلى المشاركة عبر بعثة للأمم المتحدة أكثر من العمل أحادي الجانب.

لكن السيناريو الأكثر واقعية الذي قد يتضمن نشرًا أحادي الجانب للقوات الصينية، هو حماية وتأمين المواطنين الصينيين والاستثمارات الاقتصادية في أفريقيا، وربما باستخدام القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي، أو ربما لمساعدة باكستان ضد التهديدات الأمنية المستقبلية لمشاريع البنية التحتية الممولة من الصين هناك.

من جهتهما، لا تزال كل من ألمانيا واليابان تواجهان قيودًا محلية كبيرة على الانتشار، حتى في البعثات متعددة الأطراف التي قد تواجه قتالًا. هذا، بينما أستراليا تعتبر منخرطة في نقاش عام حول إذا كان جيشها سيتدخل في حرب افتراضية تشمل الصين وتايوان والولايات المتحدة، لكن هذا النقاش هو تكهنات بأسوأ الحالات وتخطيط سيناريو وليس سياسة. لذلك، من المرجح أن يظل النادي غير الرسمي للدول القوية والثرية ذات النفوذ الجيوسياسي، والتي تتدخل في النزاعات المسلحة سعيًا وراء أهداف "وطنية"، انتقائيًا.

لكن المتغير الأخير يتعلق بطبيعة التدخل نفسه؛ فقد يؤدي الانتشار المتزايد للمركبات القتالية غير المأهولة على الأرض وفي البحر والجو إلى تغيير حساب تكلفة تدخلات الجيوش، التي يمكنها تحمل تشكيلات بحجم كافٍ لهذه التقنيات، وتطوير نظريات عملية لنشرها جنبًا إلى جنب مع المنصات المأهولة والتشكيلات العسكرية التقليدية. وهناك اتجاه آخر يتمثل في الاستخدام المتزايد للشركات العسكرية الخاصة المدعومة من الدول، للتدخل في البلدان التي تمزقها النزاعات، لتأمين النفوذ السياسي والاقتصادي جنبًا إلى جنب مع عملائها أو نيابة عنها.

ويعتبر استخدام روسيا لمجموعة "فاجنر" لاختبار ردود الأفعال في جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا مثالًا على ذلك، كما أظهر الصراع الليبي أيضًا مرتزقة جنّدتهم تركيا من الجماعات المسلحة التي تدعمها في سوريا. وفي ذروة تدخلهما في العراق وأفغانستان، اعتمدت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشكل كبير على المتعاقدين العسكريين الخاصين لتكملة قواتهم المسلحة. وقد تتطور الطرق التي يتم من خلالها استخدام المرتزقة في التدخلات المستقبلية في اتجاهات مختلفة، كما إن نطاق البلدان القوية التي تختار استخدام خدماتها قد يتسع أيضًا. بنظرة أوسع، ستستمر الجيوسياسية المتغيرة للمنافسة بين الدول في التأثير على كل من الفرص والمخاطر المحيطة بالتدخلات في النزاعات المسلحة.