ركود عالمي مؤكد خلال عام 2023

ركود عالمي مؤكد خلال عام 2023 والعالم سيعاني من صدمات في الجغرافيا السياسية والطاقة والاقتصاد

الساعة : 12:30
9 يناير 2023

المصدر: زاني مينتون بيدوس: رئيس تحرير ذي إيكونوميست

الترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

الرابط: لقراءة وتحميل الترجمة / اضغط هنا

أعلن محرّرو قاموس كولينز الإنجليزي كلمة "permacrisis" "كلمة العام" لعام 2022؛ وعرّفوها بأنها "فترة ممتدة من عدم الاستقرار وانعدام الأمن"، وهي رسالة سلبية تلخص بدقة عالم اليوم مع بزوغ فجر عام 2023. فقد أدى "غزو" "فلاديمير بوتين" لأوكرانيا إلى أكبر حرب برية في أوروبا منذ عام 1945، وهو أكبر خطر للتصعيد النووي منذ أزمة الصواريخ الكوبية، وأكبر نظام عقوبات بعيد المدى منذ الثلاثينيات. كما أدى ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها منذ الثمانينيات في العديد من البلدان، كما أدى لأكبر تحدٍ للاقتصاد الكلي في العصر الحديث للبنوك المركزية. إضافةً لذلك، فقد اهتزت جميع "الثوابت" التي ظلت قائمة لعقود بأن الحدود يجب أن تكون مصونة، وأنه لن يتم استخدام الأسلحة النووية، وأن التضخم سيكون منخفضًا وستظل المصابيح مضيئة في الدول الغنية.

وقد اجتمعت ثلاث صدمات لتسبب هذا الاضطراب؛ أكبرها هي الصدمة الجيوسياسية؛ حيث يواجه النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة تحديًا كبيرًا، خصوصًا من قبل "بوتين"، بينما يعدّ التحدي الأكبر هو التدهور المستمر في العلاقات بين أمريكا والصين في عهد "شي جين بينغ". وربما تكون طريقة رد الفعل التي استجابت بها أمريكا والدول الأوروبية على العدوان الروسي قد أعادت إحياء فكرة "الغرب"، لا سيما التحالف عبر الأطلسي، لكنها وسّعت الفجوة بين الغرب وبقية العالم؛ حيث لا تدعم دول كثيرة العقوبات الغربية على روسيا، كما يرفض "بينغ" علانية القيم العالمية التي يقوم عليها النظام الغربي. وقد أصبح الانفصال الاقتصادي بين أكبر اقتصادين في العالم حقيقة واقعة؛ فلم يعد الغزو الصيني لتايوان مستبعداً، كما بدأت تظهر كذلك فجوات في حقائق جيوسياسية أخرى ظلت ثابتة لأمد طويل، مثل ما يحدث الآن في التحالف بين أمريكا والمملكة العربية السعودية.

وقد أدت الحرب في أوكرانيا بدورها إلى أكبر صدمة سلعية منذ السبعينيات وإلى إعادة تشكيل نظام الطاقة العالمي بسرعة هائلة؛ فأهمية أوكرانيا كمصدّر للمنتجات الزراعية أظهرت أن الحرب كانت تهدد بحالة من الجوع الجماعي العالمي، حتى تم العثور على وسيلة لفتح ميناء أوديسا، وبالنسبة للعديد من البلدان كانت النتيجة الأكثر إلحاحًا هي توفر الغذاء والأسمدة. كما كشفت رغبة "بوتين" في استغلال صادراته من الغاز إلى أوروبا التي تعتمد على الهيدروكربونات الروسية كسلاح، حيث أصبحت قطاعات صناعية كثيفة الاستهلاك للطاقة مهددة بعدم الاستمرار بين عشية وضحاها، فيما أجبرت الحكومات على إنفاق المليارات لحماية المستهلكين، ودفعت إلى التدافع المحموم على مصادر جديدة للإمداد. كل هذا في عام أصبحت خلاله عواقب تغير المناخ، من الفيضانات في باكستان إلى موجات الحر في أوروبا، أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. ومع ارتفاع تكاليف الطاقة، التي دفعت حتى أكثر السياسيين الأوروبيين توجهًا للطاقة النظيفة، لإعادة تشغيل محطات الفحم المتوقفة مرة أخرى، ظهرت مقايضات صارخة لضمان أن تكون إمدادات الطاقة ميسورة التكلفة وآمنة ومستدامة بيئيًا.

تحوّل التضخم من مؤقت إلى معضلة مستمرة

أدى ارتفاع أسعار الطاقة بدوره إلى فقدان استقرار الاقتصاد الكلي؛ فقد كانت أسعار المستهلك تتسارع بالفعل أوائل عام 2022 حيث اجتمع الطلب الشديد بقيود العرض بعد وباء كورونا. لكن مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بشكل كبير، تحوّل التضخم من وضع مؤقت إلى كونه معضلة مستمرة وانتقلت قيمته إلى خانة العشرات، كما قامت البنوك المركزية الكبرى في العالم بأسرع وأوسع مجموعة زيادات في الأسعار العالمية خلال أربعة عقود على الأقل.

ماذا سيحدث بعد ذلك؟ سيتوقف ذلك على كيفية تطور هذه الأزمات الثلاث؛ الجيوسياسية والاقتصادية والطاقة، وكيف ستؤثر بعضها على بعض. فعلى المدى القصير، يعتبر الجواب قاتمًا؛ حيث سيكون معظم العالم في حالة ركود خلال عام 2023، وفي عدة أماكن يمكن أن يؤدي الضعف الاقتصادي إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية، وسيكون هذا المزيج السام أكثر وضوحًا في أوروبا. ورغم الخريف المعتدل وما قد ينتج عنه من انخفاض في أسعار الطاقة، ستواجه القارة شتاءً صعبًا خلال 2023. وبالفعل، فإن العديد من الاقتصادات الأوروبية على حافة الركود، فأسعار الفائدة المرتفعة اللازمة لكبح التضخم ستؤدي إلى مزيد من استنزاف الإنفاق الاستهلاكي وزيادة البطالة.

من جهة أخرى، فإن موجة البرد قد تؤدي لارتفاع أسعار الغاز وتزيد الاحتمال الحقيقي لانقطاع التيار الكهربائي. وبدورها، قامت الحكومات الأوروبية حتى الآن بحماية المستهلكين من آثار صدمة أسعار الطاقة، من خلال الإعانات الهائلة ووضع حدود للأسعار، إلا أنه لا يمكن أن يستمر هذا إلى أجل غير مسمى؛ فبريطانيا في أسوأ أوضاعها بسبب الضرر المستمر الناجم عن خروجها من الاتحاد الأوروبي، والضرر الذي فرضته على نفسها بسبب "خطة ليز تروس" للتخفيضات الضريبية الهائلة غير الممولة. ولإعادة بناء ثقة السوق بعد اللامسؤولية في رئاسة الوزراء بها، سيتعين على بريطانيا إجراء أكبر تشديد مالي في مجموعة الدول السبع الكبرى، حتى في الوقت الذي تعاني فيه من أعمق ركود اقتصادي، كما تعتبر إيطاليا، المتقاعسة أوروبيًا منذ فترة طويلة والتي تنافسها بريطانيا الآن، مصدر قلق أيضًا.

لكن الخطر الجيوسياسي الأكبر يتمثل في أن "بوتين"، في ظل فشله في ساحة المعركة، يحاول جاهدًا استغلال نقاط الضعف الأوروبية تلك. وهذه الاستراتيجية واضحة بالفعل في أوكرانيا؛ حيث تضاعف روسيا جهودها في محاولة تدمير البنية التحتية للطاقة في البلاد مع اقتراب فصل الشتاء. وحتى الآن فشلت محاولات "بوتين" في كسر تضامن دعم أوكرانيا في أوروبا الغربية عن طريق "تسليح" الغاز، لكنه يمكن أن يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، من خلال قطع كل صادرات الغاز، أو عن طريق تخريب خطوط أنابيب الغاز في أوروبا.

أما المكان الثاني الذي قد يؤدي فيه الضعف الاقتصادي إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية خلال عام 2023 سيكون الصين؛ حيث يدخل اقتصادها هذا العام وهو ضعيف بسبب مجموعة أخطاء سياسية داخلية، لا سيما تصميم "بينغ" على التمسك باستراتيجيته الخالية من الفيروسات والفشل في التعامل مع أزمة الممتلكات الواسعة والمتفاقمة. في الوقت نفسه، زاد الرئيس الصيني من خطابه القومي العدواني، خاصةً فيما يتعلق بتايوان؛ فقد حذر من "عواصف خطيرة" في المستقبل وأشار إلى "الاستفزازات الجسيمة" التي تنطوي على "تدخل خارجي" في تايوان.

بالمثل، وإن كان الاقتصاد الأمريكي سيدخل عام 2023 في شكل أقوى من الاقتصاد الصيني أو أي اقتصاد آخر في أوروبا، إلا أن الزيادات الكبيرة في معدل الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي ستؤدي إلى دفع الاقتصاد إلى الركود، لكن مع استمرار قوة سوق العمل ومدخرات الأسر المعيشية سيكون الاقتصاد معتدلًا. ورغم أن أسعار البنزين المرتفعة قد عززت من ارتفاع التضخم وألحقت الضرر بإدارة "بايدن"، إلا أن البلاد تعد منتجًا كبيرًا للطاقة. ومن المفارقات أن القوة الاقتصادية النسبية لأمريكا عام 2023 قد تكون مشكلة لبقية العالم أكثر من ضعفها؛ حيث سيحتاج الاحتياطي الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة أكثر لفترة أطول لإخماد التضخم، ما سيعزز بدوره قوة الدولار ويلزم البنوك المركزية الأخرى بمواكبة ذلك. أما على الصعيد المحلي، فإن الخطر يكمن في أن وجود حكومة منقسمة إضافةً للانكماش المعتدل سيعني تصلبًا تشريعيًا وسياسات متطرفة أكثر من المعتاد في واشنطن. في تلك البيئة، قد يتلاشى الدعم لمساعدة أوكرانيا ما من شأنه أن يشجع "بوتين"، بينما سترتفع درجة الصرامة تجاه تايوان ما سيغضب "بينغ".

باختصار، هناك العديد من الأسباب التي تجعل عام 2023 عامًا قاتمًا وخطيرًا، لكن نظرًا لأن كل أزمة تفرز احتمالات جديدة فهناك بعض الأخبار السارة وسط هذه الاضطرابات السائدة اليوم؛ حيث ستزدهر بعض الدول وسط هذه الأجواء القاتمة. على سبيل المثال، ستشهد اقتصادات الخليج ازدهارًا، ليس فقط من ارتفاع أسعار الطاقة لكن من دورها المتنامي كمؤسسات مالية أيضًا. وستكون الهند، التي ستتفوق على الصين لتصبح أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان عام 2023، نقطة مضيئة أخرى مدعومة بالنفط الروسي المخفض، والاستثمار المحلي والاهتمام المتزايد من الأجانب الحريصين على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بهم بعيدًا عن الصين. بشكل عام، ستكون الاقتصادات الناشئة أفضل نسبيًا مما كانت عليه في الفترات السابقة لارتفاع أسعار الفائدة والركود العالمي.

الخلاصة:

ختامًا، من الصعب التنبؤ بالعواقب الجيوسياسية طويلة المدى لصدمات عام 2022، ومهما حدث في أوكرانيا فمن الواضح أن "بوتين" سيفشل في تحقيق هدفه الاستراتيجي المتمثل في إنكار حق البلاد في الوجود. وبدلًا من ذلك، ستكون أوكرانيا دولة ذات توجهات غربية ولديها أكبر جيش في أوروبا. فحتى لو كانت خارج "الناتو"، فإن ذلك سيغير حسابات أوروبا الأمنية، وينبغي أن يؤدي نجاح أوكرانيا إلى توقف المعتدين المحتملين الآخرين للتفكير مليًا. ومع ذلك، فإن رفض معظم الاقتصادات الناشئة التوقيع على نظام عقوبات الغرب ضد روسيا، يشير إلى أن النداء الأوسع المتمثل في الدفاع عن الحريات الديمقراطية والحق في تقرير المصير محدود، ومع بداية عام 2023 لم يمت نظام ما بعد الحرب لكنه تغير.

نشر هذا المقال في قسم "القادة" من النسخة المطبوعة من The World Ahead 2023 تحت عنوان "ثلاث صدمات هزت العالم".