المصدر: ويلسون سنتر
الترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات
الرابط: لقراءة وتحميل الترجمة / اضغط هنا
فاز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بولاية ثالثة غير مسبوقة في المنافسة الشديدة بالانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ ومع هذا الفوز والأغلبية في البرلمان، من المرجح أن يظل الزعيم التركي شوكة في خاصرة الغرب لسنوات قادمة. لكن تركيا، باقتصادها القوي بحجم عضو في "مجموعة الـ20"، والخبرة الدبلوماسية، والقوة العسكرية، وقبل كل شيء الموقع، تعتبر هامة للغاية خلال هذه الفترة المحفوفة بالمخاطر.
من جهتها، صرحت إدارة "بايدن" في استراتيجيتها للأمن القومي في تشرين الأول/ أكتوبر 2022: "نحن في منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي"، وبالتالي "سنتشارك مع أي دولة تشاركنا اعتقادنا الأساسي بأن النظام القائم على القواعد يجب أن يظل أساس السلام والازدهار العالميين". بدورها، تستوفي تركيا معايير "أي دولة" رغم وجود محاذير، ونظرًا لأهميتها فإن التعامل معها بفعالية في هذه المنافسة الاستراتيجية أمر بالغ الأهمية. لكن هذا سيتطلب سياسة "الانخراط والفهم والتغلب" للتعامل مع العقبات التي تعترض العلاقات الإيجابية؛ "أردوغان" نفسه والقضايا الأساسية والخلافات المستمرة في التوجهات.
على الغرب تفهم رؤية أنقرة لقضاياها الإقليمية
إن التعامل مع "أردوغان" هو الخطوة الأهم والأكثر صعوبة؛ فهو (مثل معظم الأتراك) يشعر بالاستياء العميق والمبرر (إلى حد ما) من معاملة الأمريكان والأوروبيين على مدى العشرين عامًا الماضية، وإن كان هو، على عكس كثير من الأتراك، يُعتبر أكثر عداءً للغرب من الناحية الثقافية والعاطفية، لكن الجيد في الأمر أنه شخص عملي. ومع ذلك، فإن الوضع العالمي خطير للغاية وتركيا مهمة جدًا، لدرجة أنه يجب على إدارة "بايدن" لا سيما الرئيس نفسه التعامل معه، وبالتالي فقد كانت مكالمة "بايدن" مع "أردوغان" في الـ30 من أيار/ مايو الماضي خطوة أولى مهمة.
إضافةً إلى ما سبق، فإن التشاركية مقاربة ضرورية لكنها ليست كافية؛ إذ إن المشاكل مع تركيا ليست في نطاق "أردوغان" فقط، لكنها تنبع أيضًا من قضايا تتعلق "بالمحيط القريب" لأنقرة، والتي دفعت تركيا لفترة طويلة إلى صراع متكرر مع واشنطن والاتحاد الأوروبي. علاوةً على ذلك، فإن حل التوترات أو حتى إدارتها تعوقه العقليات المتشددة في تركيا والغرب. وبالتالي، فإن الحفاظ على علاقات جيدة مع أنقرة يتطلب من الغرب تفهم هذه القضايا والتغلب على العقليات الراسخة. وفي ظل وجود علاقات اقتصادية أوثق للاتحاد الأوروبي مع أنقرة واعتماده بشكل أكبر على القرارات الأمنية التركية، فإن نقاط الضعف الدبلوماسية، مثل اليونان وقبرص، تشير إلى أن هذه المهام ستتطلب قيادة واشنطن.
ومع ذلك، فإن إحدى المشكلات تتمثل في توجه السياسة الخارجية الأمريكية شبه الدائم للتقليل من أهمية المخاوف الأمنية الخارجية القريبة من الدول حتى فوات الأوان، ومن الأمثلة على ذلك: مسيرة عام 1950 نحو نهر يالو، وتصدي إيران للوجود الأمريكي في العراق، وتقويض باكستان لمهمة لأمريكا في أفغانستان. وبالتالي، وللتعامل بشكل مثمر مع أنقرة في القضايا الخارجية القريبة، مثل روسيا و"حزب العمال الكردستاني" واليونان وقبرص والقوقاز، من المهم تفهّم رؤية أنقرة لهذه القضايا.
معضلة حزب العمال الكردستاني
إن تركيا تعارض كليًا التوسع الروسي، ويتضح ذلك منذ عام 2020 من خلال أعمالها ضد روسيا شمال غرب سوريا وفي ليبيا والقوقاز، والأهم من ذلك أوكرانيا. لكن لدى تركيا أيضًا مصالح ونقاط ضعف تجاه موسكو تتطلب عناية كبيرة؛ حيث تبلغ التجارة الثنائية بينهما أكثر من 60 مليار دولار، أي ضعف حجم التبادل مع الولايات المتحدة، ويشمل ذلك 40-50% من واردات الغاز، مصدر الطاقة الرئيسي لتركيا. علاوةً على ذلك، فقد أثبتت كل من روسيا وإيران قدرتيهما على استغلال أكبر مخاوف تركيا الأمنية الداخلية، "حزب العمال الكردستاني". وهكذا بالنسبة لسياسة روسيا، فمن وجهة نظر "الناتو"، فإن "الكوب التركي" ممتلئ إلى ثلثيه فقط، ومحاولة ملئه، عبر مطالبة تركيا بالمشاركة في عقوبات "الناتو" على روسيا أو التراجع عن شراء "S-400" مثلًا، ستخلق صداعًا مستمرًا في مقابل تحقيق مكاسب قليلة.
إن "حزب العمال الكردستاني" (PKK) حركة متمردة إرهابية كردية تركية نشطة منذ عام 1984، وهو القضية الأكثر صعوبة في العلاقات الأمريكية التركية؛ فعلى عكس البلدان المجاورة حيث يتركز الأكراد في المناطق الحدودية، فإن حوالي 20% من السكان الأكراد في تركيا منتشرون في جميع أنحاء البلاد ومندمجون مع بقية السكان. وبالتالي، إذا نجح "العمال الكردستاني" في تنفيذ أجندته الانفصالية، فلن تواجه تركيا سيناريو كوسوفو عام 1999، بل سيناريو رواندا عام 1993.
إضافةً لذلك، فإن "العمال الكردستاني" لديه قوات عسكرية عبر الحدود في كل من العراق وسوريا، ما يزيد من خطورة التهديد. كما إن هناك مفارقة في بروز هذه القضية في العلاقات الثنائية؛ حيث وصفت الولايات المتحدة "PKK" منذ فترة طويلة بأنه حركة إرهابية وساعدت أنقرة ضده. وقد جاء هذا التحول عام 2014 بعد أن دعمت الولايات المتحدة "وحدات حماية الشعب" التابعة للفرع السوري من "PKK"، (أعيد تسميتها لاحقًا باسم قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، لتمويه صلاتها بالحزب)، ضد "تنظيم الدولة الإسلامية". ولم تكن هذه مشكلة كبيرة في البداية، ثم توصلت أنقرة إلى وقف إطلاق النار مع "العمال الكردستاني" وانخرطت في حوار مع الأكراد السوريين المرتبطين بـ"وحدات حماية الشعب".
شمال شرق سوريا
لقد تغير كل هذا خلال عامي 2015 و2016 بسبب التغييرات السياسية في تركيا، التي أدت إلى انهيار وقف إطلاق النار من قبل "PKK" وأنتجت موقفًا أكثر صرامة مناهضًا للحزب. وفي غضون ذلك، أدت الطموحات الأمريكية تجاه "قسد" لتكون رأس حربة لقوات من مائة ألف جندي بهدف القضاء على معاقل "تنظيم الدولة" في منطقة الفرات، إلى سيطرتها على 20% من سوريا وملايين السوريين. وقد أدى ذلك إلى توتر كبير في العلاقات الثنائية، نتج عنه التزام أمريكي بأن دعم "قسد" سيكون "تكتيكيًا ومؤقتًا وعمليًا" فقط، مع عدم وجود رؤية أكبر لـ"الدولة الصغيرة" لـ"قسد" التي أنشأتها واشنطن إلى حد كبير.
لم يتقبل الأتراك كل تلك الوعود المؤقتة، مشيرين إلى أنه رغم التزامات نائب الرئيس آنذاك "بايدن" ووزير الخارجية لاحقًا "مايك بومبيو"، لم تجبر واشنطن "قسد" على الانسحاب من مدينة منبج عبر نهر الفرات إلى الغرب، بل على العكس بدأت تسليحها عام 2018 بعد هزيمة "تنظيم الدولة" إلى درجة كبيرة، وتمركزت القوات الأمريكية على طول الحدود التركية كواجهة على ما يبدو، رغم أن الولايات المتحدة لم تعلن أبدًا معارضة التوغل التركي عسكريًا.
باختصار، كانت رسالة واشنطن مختلطة بشكل بائس، وكانت النتيجة التوغل العسكري التركي في أراضي "قسد" عام 2019، ما عرّض للخطر جهود الولايات المتحدة و"قسد" بأكملها ضد "تنظيم الدولة"، حتى تم التفاوض على وقف إطلاق النار مع "أردوغان". إن القضية ما زالت مستمرة لكنها تسمم العلاقات، لأن مصير "قسد" وعلاقاتها مع كل من أنقرة ودمشق وواشنطن غير واضح.
قبرص والقوقاز
إن التوترات اليونانية التركية لها جذور تاريخية لكنها تنحصر حاليًا في السيادة الممنوحة لجزر بحر إيجة اليونانية، بموجب الاتفاقيات الدولية بين عامي 1914 و1948، واتفاقيات لندن وزيورخ لعام 1960 التي أسست استقلال قبرص. وإن كانت هذه الاتفاقيات تحمي المصالح التركية مثل جزر بحر إيجة منزوعة السلاح وحقوق الأقلية التركية القبرصية، إلا أنه منذ سبعينات القرن الماضي تحدى اليونانيون القبارصة بعض تلك الترتيبات الدولية، ما أدى لردود فعل تركية، مثل غزو قبرص عام 1974 لمنع الاتحاد مع اليونان، وعمليات حرية الملاحة الجوية والبحرية في بحر إيجه. وقد ظهرت مشاكل أحدث فيما يتعلق بحقوق غاز قاع البحار، لكن حجة تركيا بأنها تتراجع عن تحديات المعاهدة تتقوض مرارًا وتكرارًا من خلال أعمالها العدوانية، بدءًا من هجوم قبرص الثاني عام 1974 إلى التحليق فوق الأراضي اليونانية التي لا جدال عليها والتهديدات بدق طبول الحرب.
أما في القوقاز، فإن المصالح التركية تجاه التوسع الروسي والإيراني ودعم أذربيجان التي تربطها بها علاقات عرقية ولغوية وجيوستراتيجية وطاقة، تتعارض مع أرمينيا التي لا تزال على خلاف مع باكو وينظر إليها على أنها قريبة جدًا من موسكو وطهران. لكن القدرة على شرح كل هذه القضايا ضعيفة لغاية بسبب الاختلاف في التوجهات، حتى بما يتجاوز نبرة "أردوغان" العدائية غير المقبولة. على الجانب التركي، فإن هذه التوجهات تشمل مزيجًا من انعدام الأمن والتعاطف؛ فالمسؤولون الأتراك من الطراز الأول في إتقان إدارة الملفات، فضلًا عن المطالب أحادية الجانب بشكل مفرط.
ينبغي على الطرفين اتباع سياسة "تفهّم وتغلّب"
إن قدرة كل من واشنطن وبروكسل على فهم وجهة النظر التركية تعوقها معارضة منهجية من جماعات الضغط المختلفة، بدءًا من الجماعات العرقية الأرمينية واليونانية والكردية إلى المحافظين الجدد المناهضين لـ"أردوغان"، كما إن مسؤولي الدفاع منزعجون من شراء منظومة "S-400" والإجراءات في سوريا ومنظمات حقوق الإنسان. حتى عندما استجابت تركيا للمطالب الغربية، مثل عهد "تورغوت أوزال" في التسعينيات أو "أردوغان" بقبوله في البداية خطة عنان قبرص، فقد استمرت جماعات الضغط في المطالبة بالاستسلام في عدد من القضايا. وردًا على ذلك، أصبح الرأي العام التركي أكثر معاداةً للغرب، ما حدَّ من مرونة الحكومة وبالتالي لا يمكن استمرار التقدم في قضايا محددة إلا إذا تمكنت واشنطن من التغلب على هذه العقبات.
لحسن الحظ، فإن فوز "أردوغان" الانتخابي يوفر للولايات المتحدة وتركيا فرصة للبدء من جديد؛ فإلى جانب المشاركة السريعة على أعلى مستوى، يجب على واشنطن وأنقرة العمل على تحقيق مكاسب سريعة أصبحت ممكنة الآن: مثل انضمام السويد إلى "الناتو"، ومبيعات طائرات "F-16"، ووقف إطلاق النار مع "حزب العمال الكردستاني" (أو على الأقل استمرار ضبط النفس التركي شمال شرق سوريا)، والهدوء مع اليونانيين، والتقدم في التقارب الأرمني الأذربيجاني الأخير الذي روج له وزير الخارجية، أتوني بلينكين. بالنظر إلى العقبات المذكورة أعلاه أمام تحسين العلاقات، لا توجد ضمانات لكن لا يمكن لواشنطن ولا أنقرة تجاهل هذه العقبات أمام إقامة علاقات ثنائية مرضية.