المصدر: ميديل إيست إنستيتيوت
ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات
الرابط: لقراءة وتحميل الترجمة / اضغط هنا
منذ توليه مهامه قبل شهرين، أحرز الفريق الاقتصادي الجديد في تركيا بعض التقدم في عهد وزير الخزانة والمالية الجديد، محمد شيمشك، ومحافظة البنك المركزي الجديدة، حفيظة غاية أركان؛ حيث بدأ تطبيع السوق وتم تقليل مخاطر أزمة ميزان المدفوعات. رغم ذلك، عاد التضخم ليكتسب زخمًا جديدًا كما يزداد عجز الميزانية سوءًا بصورة حادة، بينما لم يتم الإعلان حتى الآن عن أجندة إصلاحية لمواجهة هذه التهديدات. وبغض النظر عن آراء كل من المتشائمين من استمرار الرئيس "أردوغان" في السلطة، والمتفائلين الذين يعوّلون على مصداقية المسؤولين الجدد، فلا أحد يعرف حقًا إذا كان الفريق الاقتصادي الجديد ونهجه سيثبت نجاحه على المدى القريب والمتوسط أم لا. ورغم أن فترة شهرين وقت قصير للتوصل إلى استنتاجات حقيقية، إلا أن الإجراءات التي تم اتخاذها حتى الآن تعطي بعض الإشارات.
ارتفاع الأسعار وتغيير سقف الائتمان
قام البنك المركزي التركي في البداية برفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 650 نقطة أساس إلى 15% في حزيران/ يونيو الماضي، ثم رفعه بمقدار 250 نقطة أساس أخرى إلى 17.5% خلال اجتماعه الأخير في تموز/ يوليو. ومن المتوقع حدوث ارتفاعات أخرى قد يتم تنفيذها بزيادات أقل، لكن مع ذلك قد يسبب سعر الفائدة النهائي أو هدف سعر الفائدة طويل الأجل خيبة أمل للمشاركين في السوق، الذين يتوقعون أن يعالج البنك ارتفاع التضخم بمعدلات فائدة حقيقية إيجابية.
ومن المحتمل أن يكون المعدل النهائي بين 20% و25%؛ ففي حالة الاضطراب المالي غير المتوقع قد يتم رفع النطاق العلوي إلى 25-30%، رغم أن كلًا من الرئيس "أردوغان" ومحافظة البنك المركزي "أركان" قد أغلقا الباب ضمنيًا أمام مزيد من الزيادات. وقد كانت "أركان"، التي أثارت الإعجاب خلال أول مؤتمر صحفي رسمي لها في تقرير حول التضخم الفصلي الذي صدر نهاية تموز/ يوليو، سعيدة بإيقاف الزيادة الأخيرة في أسعار الفائدة على الودائع، وهو عائق حاسم أمام التحول إلى الأصول غير المقومة بالليرة.
وبدلًا من تطبيق سياسة معدل فائدة أكثر تقليدية، ينصب التركيز على محاولة اكتساب مزيد من المصداقية، من خلال إجراء تعيينات جديدة في الإدارة العليا للبنك المركزي؛ حيث تم نهاية الشهر الماضي تعيين ثلاثة نواب جدد للمحافظ، جميعهم على درجة عالية من الدراسة كما عمل أحدهم في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. وإضافةً إلى استخدام أداة سعر الفائدة، تم تعديل سياسة الائتمان بشكل كبير من خلال تبسيط اللوائح التنظيمية للبنوك، والتحرير الجزئي لأسعار الفائدة التي يمكن أن تفرضها على العملاء.
فبالتعاون مع البنك المركزي ووكالة التنظيم والرقابة المصرفية "BRSA" (الهيئة التنظيمية المصرفية التركية)، تم رفع سقف أسعار الفائدة على القروض التجارية من 29% إلى ما يقرب من 38%. وتم تحديد سقف قروض الشركات الصغيرة والمتوسطة والمزارعين والمصدرين ورجال الأعمال أصحاب المنشآت الاستثمارية الجديدة بحد أقصى 30%، فيما تقترب قروض المستهلكين من 50% تقريبًا، في حين أن معدلات الرهن العقاري أقل لكن أحجام قروضها صغيرة جدًا مقارنة بأسعار المنازل. وستتم مراجعة كل هذه السقوف ورفعها قليلًا عند تنفيذ مزيد من عمليات رفع معدل الفائدة.
قد يكون تأثير كل هذا مختلطًا؛ فمن ناحية تعتبر القروض أغلى بلا جدال مما كانت عليه قبل انتخابات أيار/ مايو 2023. رغم ذلك ومع هذه السقوف الجديدة، قد ينتهي تقنين الائتمان بين البنوك الخاصة، وقد تؤدي زيادة الإقراض إلى تقويض السياسة النقدية الانكماشية الموعودة التي تهدف إلى مكافحة التضخم. ومن ناحية أخرى، لا تزال عائدات السندات الحكومية منخفضة (من 15 – 20%)، مع وجود احتمال ضعيف بتطبيع سوق السندات نظرًا لزيادة عجز الموازنة بشكل كبير. وإن كانت الارتفاعات الجديدة في معدلات السياسة النقدية قد تدفعها أعلى قليلًا من عتبة 20%، لكن المعدلات التي تتماشى مع التوقعات التضخمية ليست مرجحة، لأن الانتخابات المحلية المقبلة في آذار/ مارس 2024 ستتطلب مزيدًا من الإنفاق لدعم الوعود الشعبوية والمشاريع الحكومية الضخمة.
ارتفاع معدلات التضخم
إن هناك تحديًا إضافيًا وأكثر خطورة لسياسة رفع أسعار الفائدة أيضًا؛ فقد بدأت للتو موجة جديدة من التضخم نهاية تموز/ يوليو، وقد قام البنك المركزي بتعديل توقعاته للتضخم بنهاية العام بشكل كبير إلى 58%، بزيادة حادة من 22.3% قبل ثلاثة أشهر فقط. ووفقًا للبنك المركزي التركي، فإن التضخم سيبلغ ذروته عند حوالي 70% في النصف الأول من عام 2024 بعد الانتخابات المحلية، ولسوء الحظ ورغم المراجعة الدراماتيكية فإن هذه التوقعات لا تزال متفائلة للغاية. فقد ارتفع مؤشر أسعار المستهلك الشهري بنسبة 9.5% في تموز/ يوليو وارتفع معدل التضخم السنوي من 38.2% إلى 47.8% خلال شهر واحد. كما إن هناك مزيدًا من الضغط المتصاعد بسبب الزيادات المرتفعة غير المتوقعة في الأجور، والتأثير الشديد لأسعار الصرف (تأثير تغير سعر الصرف على الأسعار المحلية للسلع المتداولة وغير المتداولة). إن الموجة الحالية من ارتفاع التضخم قد تتجاوز القمم السابقة التي بلغت 25.2% في تشرين الأول/ أكتوبر 2018 و85.5% في الشهر ذاته عام 2022، ومن المحتمل أن يصل التضخم إلى ثلاثة أرقام بحلول أيار/ مايو 2024.
تحركات السياسة المالية
رغم أن السياسة النقدية تتصدر العناوين الرئيسية بسبب نهج "أردوغان" تجاه أسعار الفائدة، إلا أن السياسة المالية التركية فعالة للغاية وتستحق الدراسة عن كثب؛ فالوعود الاقتصادية الشعبوية، والدعم المستمر لأصحاب الأعمال، والمشاريع الضخمة غير المجدية، والسندات الحكومية المقومة بالعملة الأجنبية كل ذلك أدى إلى تدهور هائل في عجز موازنة الدولة. ونتيجة للتكاليف الناتجة عن زلزال شباط/ فبراير الماضي، كان من المتوقع أن يبلغ عجز الموازنة 10% من الناتج المحلي الإجمالي للسنة المالية 2023.
وللحد من الارتفاع المتسارع في الدين العام تم تنفيذ زيادات ضريبية إضافية في مشروع الموازنة التكميلية في تموز/ يوليو 2023، إلى جانب 42 مليار دولار في الإنفاق الحكومي الجديد للفترة المتبقية من العام. كما تم رفع معدل الضريبة على الشركات بنسبة 5% لتصل إلى 30% للمؤسسات المالية و25% للشركات في القطاعات الأخرى، ورفع ضريبة القيمة المضافة بنسبة 2% لتصل إلى 20% على السلع والخدمات. وتمت أيضًا مضاعفة نوع من ضريبة الثروة على السيارات لعام 2023 كإجراء مؤقت، لكن الارتفاع الأكثر إيلامًا كان الارتفاع بنسبة 20% تقريبًا في ضريبة الاستهلاك الخاصة بالبنزين والديزل. وسيتم تمويل باقي الإنفاق عن طريق الديون الجديدة والتوسع النقدي، وقد يتم سنّ زيادات ضريبية جديدة في كانون الأول/ ديسمبر 2023 في موازنة 2024، فهناك حاجة إلى إجراءات جادة لكبح عجز الموازنة، لكن من المحتمل أن يتم تنفيذها بعد الانتخابات المحلية التي ستجرى عام 2024.
إن هذه الزيادات الضريبية بمثابة اعتراف من الحزب الحاكم بأن سياساته الحالية غير دائمة، خصوصًا قبيل الانتخابات الحاسمة التي ستحدد لمن ستكون السيطرة على اسطنبول والمدن الرئيسية الأخرى. كما إن التحول الحاد من قبل البنك المركزي عن سياسة أسعار الفائدة المنخفضة للغاية مؤشرٌ آخر على عدم استدامة تلك السياسات. ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى هذه السياسات الجديدة على أنها تغيير كلي عن السياسات السابقة؛ حيث يهدف فريق الإدارة الاقتصادية الجديد إلى تمديد استخدامها حتى الانتخابات المحلية فقط. وللوصول إلى هذا الهدف تم تخفيف بعض قيود رأس المال والسماح بتخفيض قيمة العملة المحلية بنسبة 35%، كما إن قسط مقايضة التخلف عن سداد الائتمان، (وهو مقياس للمخاطر التي قد تثبت عدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها بالعملة الصعبة)، انخفض بشدة من 700 إلى 390 نقطة أساس بفضل هذه الإجراءات، كما ارتفع صافي احتياطي الذهب والعملات الأجنبية المملوك مباشرة للبنك المركزي.
البحث عن تدفق النقد الخارجي
وسط الموجة الجديدة من التضخم والعجز المقلق في الموازنة، لا يمكن الاستمرار في هذا المزيج من السياسات حتى الانتخابات دون تدفق نقدي من الخارج؛ فحتى الآن بلغ إجمالي التدفق إلى سوق الأسهم 1.9 مليار دولار فقط، ولا يوجد طلب على السندات الحكومية حيث لا تزال عائداتها منخفضة للغاية مقارنةً بمعدلات التضخم الحاصلة والمتوقعة والمستهدفة.
لكل هذه الأسباب من الضروري وجود قنوات تمويل جديدة، وبدوره بدأ الرئيس "أردوغان" يبحث سريعًا عن أموال جديدة من الدول الشريكة مثل قطر والسعودية والإمارات وروسيا. فلا زالت الشركة المستوردة للغاز الطبيعي التابعة للدولة "بوتاش" مدعومةً بتأجيل مدفوعاتها لشركة "غازبروم" الروسية، فيما وعدت الإمارات باستثمار حوالي 50 مليار دولار في الأصول التركية. وإن كانت تفاصيل الخطة لم تتضح بعد، إلا أنه يقال إنها ستتضمن عروضًا بقيمة 8.5 مليار دولار لسندات تركية جديدة مقومة بالدولار. كما وقّعت تركيا صفقة طائرات بدون طيار كبيرة مع السعودية من خلال شركة "Baykar"، يُقال إنها أكبر عقد دفاعي لتركيا حتى الآن؛ حيث تشمل الإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا.
وبغض النظر عن الشائعات والتقارير الإعلامية المحدودة، لم يتم الإفصاح عن تفاصيل محددة حول هذه الصفقات، لكن من المتوقع أن تشمل بيع الأصول المربحة المملوكة للدولة التركية والقطاع الخاص. باختصار، يمكن القول إنه تم اتخاذ كل هذه الخطوات للتغلب على أزمة العملات الأجنبية الحالية؛ إذ لا يزال العجز التجاري يمثل مشكلة كبيرة؛ فرغم الانخفاض في حزيران/ يونيو، عندما سجل الحساب الجاري فائضًا نادرًا، إلا أنه مستمر في التدهور؛ حيث تشير إحصاءات تموز/ يوليو إلى عجز تجاري بقيمة 12.4 مليار دولار بعد الانخفاض الحاد في قيمة الليرة.
الآفاق المستقبلية
ظلّت تركيا في حالة ركود اقتصادي متفاوت المستويات ودرجة من التدهور منذ آذار/ مارس 2018، وقد نجحت حكومة "أردوغان" في التدخل لإبقاء الاقتصاد قائمًا على قدميه، لكن مع تأجيل تكلفة القيام بذلك إلى ما بعد الانتخابات. لكن هذا النهج المتمثل في استخدام الأساليب غير التقليدية التي تعرقل إمكانات النمو على المدى الطويل للبلاد لا يمكن أن يستمر إلى الأبد؛ إذ من المرجح أن يكون هناك برنامج استقرار بدعم من صندوق النقد الدولي أو بدونه بعد الانتخابات المحلية في آذار/ مارس 2024. وعند هذه النقطة سيصبح معدل النمو المنخفض، وارتفاع معدل البطالة، والإفلاس واسع النطاق بين المؤسسات الخاصة هو الوضع الطبيعي الجديد.
إن هذه النتائج مؤكدة رغم صعوبة تصور الطريق إلى الانتخابات المقبلة ورد فعل "أردوغان" على تدهور الأوضاع الاقتصادية. بالمقابل، ورغم الغيوم التي تلوح في الأفق، لا تقدم أحزاب المعارضة حاليًا سوى بدائل قليلة، فيبدو أنها مشلولة في وقت يمكن أن يكون لها تأثير كبير. والخلاصة أنه رغم تحقيق بعض النجاح الأولي، فإن الفريق الاقتصادي الجديد في تركيا يواجه تحديات كبيرة وما زال أمامه طريق طويل وصعب.