قراءة استشرافية حول آلية إدارة ترامب للسياسة الخارجية

الساعة : 14:36
19 نوفمبر 2024

إن الشيء الوحيد غير المثير للجدل بشأن "دونالد ترامب" هو كيفية فوزه بولاية ثانية؛ فرغم ما أظهرته استطلاعات الرأي من سخونة الإحصائيات ومخاوف من الانتظار طويلًا لظهور نتائج الانتخابات، فقد تم إعلان فوز "ترامب" في وقت مبكر من صباح السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري. وعلى عكس عام 2016، فقد فاز "ترامب" بالتصويت الشعبي وبالمجمع الانتخابي كذلك، ما أدى إلى تحسين هوامشه في كل فئة سكانية تقريبًا. فقد فاز الجمهوريون بأغلبية قوية في مجلس الشيوخ بواقع 53 مقعدًا، ومن المرجح أن يحتفظوا بالسيطرة على مجلس النواب أيضًا.

أما بالنسبة للعالم، فينبغي أن تكون الصورة واضحة؛ حيث إن حركة "MAGA" (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) التي أطلقها "ترامب" سوف تحدد هوية السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال السنوات الأربع القادمة. وبالتالي، يجب على أي مراقب عن كثب لولاية "ترامب" الأولى أن يكون على دراية بتفضيلاته في السياسة الخارجية، إضافةً إلى عملية إدارة سياسته الخارجية. ومع ذلك، من المرجح أن تكون هناك بعض الاختلافات الهامة في سياسات "ترامب" الخارجية بين ولايته الأولى والثانية، أهمها أن "ترامب" سيتولى منصبه ومعه فريق أمن قومي أكثر تجانسًا مما كان عليه عام 2017، إضافة إلى أنه ستكون لدى الجهات الفاعلة الأجنبية قراءة أفضل بكثير لطبيعة "ترامب".

بدوره، سيدير "ترامب" سياسته الخارجية بثقة أكبر هذه المرة، غير أن إخضاع العالم لشعاره "أمريكا أولًا" سيبقى محل شك كبير. لكن الأمر المؤكد هو أن عصر "الاستثناء الأمريكي" قد انتهى؛ فتحت قيادة "ترامب" ستتوقف السياسة الخارجية للولايات المتحدة عن الترويج للمثل الأمريكية الراسخة، كما أن الازدياد المتوقع في الممارسات الفاسدة للسياسة الخارجية، سيجعل الولايات المتحدة تبدو كأنها قوة عظمى متنوعة.

قواعد اللعبة

لقد كانت رؤية "ترامب" العالمية للسياسة الخارجية واضحة منذ دخوله الحياة السياسية؛ فهو يعتقد أن النظام الدولي الليبرالي الذي أنشأته الولايات المتحدة قد أصبح، بمرور الوقت، أداةً فعالة ضد الولايات المتحدة. ولتغيير هذا الخلل يريد "ترامب" تقييد التدفقات الاقتصادية إلى الداخل، مثل الواردات والمهاجرين (رغم أنه يحب الاستثمار الأجنبي المباشر في الداخل)، ويريد أن يتحمل حلفاؤه مزيدًا من العبء للدفاع عن أنفسهم. كما يعتقد "ترامب" أنه قادر على عقد صفقات مع المستبدين، مثل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أو رئيس كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، وهو ما قد يقلل التوترات في مناطق الاضطرابات العالمية ويسمح للولايات المتحدة بالتركيز على الداخل.

وما هو واضح أيضًا الوسيلة المفضلة لدى "ترامب" للحصول على ما يريد في السياسة العالمية؛ فالرئيس السابق والمستقبلي مؤمن بشدة باستخدام الإكراه، مثل العقوبات الاقتصادية، للضغط على الجهات الفاعلة الأخرى. كما يؤيد "ترامب" "نظرية الرجل المجنون"، التي يعتزم بموجبها التهديد بزيادات هائلة في الرسوم الجمركية، أو "النار والغضب" ضد البلدان الأخرى، معتقدًا اعتقادًا راسخًا أن مثل هذه التهديدات ستجبرها على تقديم تنازلات أعظم مما كانت ستقدمه لولا تلك التهديدات.

لكن "ترامب" يتبنى في الوقت نفسه أسلوب الصفقات في السياسة الخارجية، ما يدل على استعداده خلال فترة ولايته الأولى لربط القضايا المتباينة لتأمين الامتيازات الاقتصادية. ففيما يتعلق بالصين على سبيل المثال، أبدى "ترامب" مرارًا استعداده للتنازل بشأن قضايا أخرى، مثل حملة القمع في هونغ كونغ والقمع في شينج يانغ واعتقال مسؤول تنفيذي كبير في شركة "هواوي"، مقابل التوصل لاتفاق تجاري ثنائي أفضل.

لقد كان سجل "ترامب" في السياسة الخارجية خلال فترة ولايته الأولى مختلطًا بالتأكيد، وإذا نظرنا إلى الصفقات التي أعيد التفاوض بشأنها حول اتفاقية التجارة الحرة لكل من كوريا الجنوبية أو أمريكا الشمالية (التي أعيدت تسميتها باسم اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، أو USMCA)، فسنجد أن محاولاته للإكراه لم تسفر إلا عن نتائج هزيلة، وينطبق هذا على اجتماعه مع "كيم جونغ أون". لكننا قد نعزو ذلك كان إلى الطبيعة الفوضوية التي اتسم بها البيت الأبيض إلى حد ما في فترة "ترامب" الأولى؛ فقد بدا "ترامب" في أوقات كثيرة في حالة حرب مع إدارته، ما أدى في كثير من الأحيان إلى وصف مستشاريه الأكثر حضورًا في السياسة الخارجية، (مثل وزير الدفاع، جيم ماتيس، ومستشار الأمن القومي، ماكماستر)، بأنهم "الكبار في الغرفة". وكانت النتيجة حدوث كثير من التقلبات في الموظفين، وعدم الثبات في تحديد مواقع السياسة الخارجية، ما أدى إلى تراجع قدرة "ترامب" على تحقيق أهدافه.

وعلى الأغلب لن يشكّل ذلك مشكلة بالنسبة لولاية "ترامب" الثانية؛ فعلى مدى السنوات الثمان الماضية، جمع ما يكفي من المساعدين لتزويد فريقه للسياسة الخارجية والأمن القومي بمسؤولين ذوي تفكير مماثل، ولا يُرجح أن يواجه مقاومة من السياسيين المعيّنين. وستكون الضوابط الأخرى على سياسة "ترامب" أضعف بكثير؛ فقد أصبحت الفروع التشريعية والقضائية للحكومة الآن أكثر ودية مع "MAGA" مما كانت عليه عام 2017. وقد أشار "ترامب" مرات عديدة إلى أنه ينوي تطهير الجيش والبيروقراطية من المهنيين الذين يعارضون سياساته، ومن المرجح أن يستخدم "الجدول-F"؛ وهو إجراء لإعادة تصنيف مناصب الخدمة المدنية على أنها مناصب سياسية، لإجبارهم على الاستقالة. وبالتالي، فإن الولايات المتحدة ستتحدث في السنوات القليلة القادمة بصوت واحد فيما يتصل بالسياسة الخارجية، هو صوت "ترامب".

لكن رغم أن قدرة "ترامب" على قيادة السياسة الخارجية ستتعزز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى؛ إذ إن أبرز تشابكات الولايات المتحدة موجودة في أوكرانيا وغزة. وخلال حملة 2024، انتقد "ترامب" "بايدن" بسبب الفوضى التي عاشتها الولايات المتحدة عام 2021 إثر الانسحاب من أفغانستان، مؤكدًا أن "التراجع في أفغانستان أدى لانهيار مصداقية الولايات المتحدة واحترامها في جميع أنحاء العالم"، ومن شأن نتيجة مماثلة في أوكرانيا أن تخلق مشاكل سياسية مماثلة لـ"ترامب". أما في غزة، فقد حثّ "ترامب" "نتنياهو" على "إنهاء المهمة" وتدمير "حماس"، ومع ذلك فإن افتقار "نتنياهو" لرؤية استراتيجية لإنجاز هذه المهمة يشير إلى أن "إسرائيل" ستواصل الحرب، وهو ما أدى لنفور العديد من الشركاء المحتملين للولايات المتحدة.

وعلى أرض الواقع سيجد "ترامب" صعوبة أكبر في سحب الولايات المتحدة من هذه الصراعات مما ادعى خلال حملته الانتخابية. علاوةً على ذلك، فإن القواعد العالمية للعبة تغيرت منذ عام 2017، وما زالت المبادرات والتحالفات والمؤسسات تتمتع بكثير من النفوذ. في غضون ذلك، أصبحت القوى العظمى الأخرى أكثر نشاطًا في إنشاء وتعزيز هياكلها الخاصة المستقلة عن الولايات المتحدة؛ وأوضح الأمثلة على ذلك المنظمات العالمية، مثل "بريكس+" و"أوبك+" و"منظمة شنغهاي للتعاون". وبشكل غير رسمي، يستطيع المرء أن يرى "تحالف الدول الخاضعة للعقوبات"؛ حيث تشعر كل من الصين وكوريا الشمالية وإيران بالرضى عن مساعدة روسيا على تعطيل النظام العالمي. وقد يرغب "ترامب" في الانضمام إلى بعض هذه التجمعات بدلًا من إنشاء بدائل مقنعة لها، لكن جهوده المعلنة لتقسيم هذه التجمعات من المرجح أن تفشل؛ فقد لا يثق المستبدون ببعضهم البعض، لكن عدم ثقتهم في "ترامب" ستكون أكبر.

رغم ذلك، فإن الفارق الأكثر أهمية بين "ترامب-2" و"ترامب-1" هو الأبسط كذلك؛ حيث أصبح الآن سلعة معروفة على الساحة العالمية. وكما قالت الأستاذة في جامعة كولومبيا، إليزابيث سوندرز: "في انتخابات عام 2016 كانت سياسة ترامب الخارجية غامضة إلى حد ما... لكن في عام 2024 سيكون من الأسهل كثيرًا التنبؤ بتصرفات ترامب... المرشح الذي أراد أن يكون الرجل المجنون وأحب فكرة إبقاء الدول الأخرى في حيرة من أمرها، أصبح سياسيًا لديه أجندة يمكن التنبؤ بها إلى حد كبير".

لقد شاهد زعماء مثل "شي" و"بوتين" و"كيم" والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحتى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أسلوب "ترامب" المتهكم من قبل. كما إن كلًّا من القوى العظمى والدول الصغيرة الآن تعرف أن أفضل طريقة للتعامل مع "ترامب" هي إمطاره بالمديح والامتناع عن تفحص حقائقه علنًا، وتقديم تنازلات مبهرجة لكنها رمزية، مع إبقاء الحفاظ على مصالحهم. لقد حقق أسلوب "ترامب" التفاوضي الحد الأدنى من المكاسب الملموسة في ولايته الأولى، وسوف يسفر عن أقل من ذلك في ولايته الثانية.

لم يعد استثناءً

هل يعني كل هذا أن "ترامب-2" سيكون مجرد نفس النسخة السابقة؟ ليس كذلك بالضبط؛ إذ إن إعادة انتخابه تشير إلى توجهين في السياسة الخارجية الأمريكية سيكون من الصعب عكسهما؛ الأول هو الفساد الحتمي الذي سيعرض سياسات الولايات المتحدة للخطر. فقد استفاد السياسيون السابقون في الإدارات السابقة، بدءًا من هنري كيسنجر إلى هيلاري كلينتون، من خدمتهم العامة من خلال صفقات الكتب، والخطب الرئيسية، والاستشارات الجيوسياسية. أما مسؤولو "ترامب" السابقون فقد أخذوا هذا الأمر إلى مستوى جديد تمامًا؛ حيث استفاد مستشارون مثل صهره ومساعد البيت الأبيض، جاريد كوشنر، والسفير السابق والقائم بأعمال مدير الاستخبارات الوطنية، ريتشارد جرينيل، من العلاقات التي أقاموها كصانعي سياسات في تأمين المليارات من الاستثمارات الأجنبية، بما في ذلك صناديق الاستثمار الحكومية الأجنبية والصفقات العقارية، فور تركهم مناصبهم. ولن يكون مفاجئًا أن يتقرب المتبرعون الأجانب من زمرة مستشاري "ترامب" مقدّمين وعودًا ضمنية وأخرى صريحة بصفقات مربحة، بعد فترة وجودهم في السلطة، طالما كانوا يخططون لذلك أثناء وجودهم فيها. وبدمج هذا مع الدور المتوقع الذي سيلعبه المليارديرات، مثل إيلون ماسك، مع نسخة "ترامب-2"، يمكن التنبؤ بزيادة هائلة في الفساد في السياسة الخارجية الأمريكية.

أما التوجه الآخر الذي سوف يعمل "ترامب-2" على تسريعه فهو نهاية الاستثناء الأمريكي؛ فبدءًا من "هاري ترومان" إلى "جو بايدن" تبنّى رؤساء الولايات المتحدة فكرة أن القيم والمثل الأمريكية تلعب دورًا مهمًا في السياسة الخارجية الأمريكية. وقد تم تشويه هذا الادعاء في محطات مختلفة، لكن اعتبار تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان كان بمثابة مصلحة وطنية لبعض الوقت. وقد جادل العالم السياسي، جوزيف ناي، بأن هذه المُثُل الأمريكية هي جوهر القوة الناعمة في الولايات المتحدة.

لكن الأخطاء السياسية الفادحة، فضلًا عن نزعة "ماذا عن" الروسية، التي تعني التغاضي عن انتقاد السلوك السيئ لشخص ما من خلال الإشارة إلى السلوك السيئ لشخص آخر، كانت سببًا في تآكل "الاستثنائية الأمريكية". وسوف يعمل "ترامب-2" على دفن ذلك؛ فهو نفسه يتبنى في الواقع نسخة من نزعة "ماذا عن" حين يتعلق الأمر بالقيم الأمريكية. ففي وقت مبكر من فترة ولايته الأولى، قال "ترامب": "لدينا الكثير من القتلة. ما رأيك؟ بلدنا بريء للغاية."

في ذلك الوقت، كان بوسع الجماهير الأجنبية أن تبرر أن أغلب الأمريكيين لم يصدقوا ذلك، نظرًا لأن "ترامب" لم يفز بالتصويت الشعبي. لكن انتخابات 2024 حطمت هذا الاعتقاد؛ فخلال حملته الانتخابية وعد "ترامب" بقصف المكسيك وترحيل المهاجرين الشرعيين، ووصَف مسؤولي المعارضة بأنهم "أعداء من الداخل"، وادّعى أن المهاجرين "يسممون دماء" البلاد. ورغم كل هذا، أو ربما بسببه، فاز "ترامب" بأغلبية شعبية، وعندما تنظر بقية دول العالم إلى "ترامب" فإنها لن ترى بعد الآن "الاستثناء الأمريكي"، بل سيرون ما تمثله أمريكا في القرن الحادي والعشرين.