انعكاسات عملية السلام التركية الكردية على علاقات أنقرة الإقليمية والدولي

الساعة : 19:23
3 يونيو 2025

المصدر: تشاتام هاوس

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

تمهيد:

في قرار تاريخي، أعلن "حزب العمال الكردستاني" (PKK)، في الـ 12 من أيار/ مايو الماضي، حل الحزب وانتهاء كفاحه المسلح ضد تركيا الذي استمر أكثر من 40 عامًا. فقد شكّلت القضية الكردية بشكل جوهري شخصية الدولة التركية وتصورها للتهديد، وأثرت على السياسة الداخلية والخارجية للبلاد أكثر من أي قضية أخرى. لذلك، فإن السلام الكردي الدائم ستكون له آثار واسعة النطاق؛ فقد يُعيد تشكيل السياسة الداخلية لتركيا وعلاقاتها مع جيرانها ومستقبلها الدولي.

إعادة تشكيل السياسة الداخلية التركية

تتميز عملية السلام الجديدة بعدم وجود جهات خارجية أو أطراف ثالثة، إضافةً إلى أن هذه العملية تبدأ الآن، ولا تنتهي، بانتهاء الكفاح المسلح وحل التنظيم المتمرد. ورغم انتهاء الكفاح المسلح، فإن القضية الكردية ستتحول الآن بشكل أكبر إلى قضية سياسية ومدنية وديمقراطية؛ وهي بداية لعملية جديدة سيستغرق حلها وقتًا طويلًا.

ورغم أن القضية الكردية ليست المصدر الوحيد للأزمة الديمقراطية في تركيا، إلا أنها تعتبر الأكثر قوة من حيث المدة والعمق. وقد أدى ذلك إلى اعتماد الدولة للمركزية الإدارية بشكل مفرط، إلى جانب العديد من القوانين "الرجعية" المتعلقة بحرية التعبير والأحزاب والأنشطة السياسية. كما إن فكرة "الانفصالية الكردية" وعنف "حزب العمال الكردستاني" جعلا المجتمع التركي أكثر تقبلًا لإجراءات الدولة غير الديمقراطية. وقد يؤدي حلّ الحزب، على المديين المتوسط ​​والبعيد، إلى توفير مجال سياسي وعام أقل خضوعًا للأمن، وبالتالي فإن إزالة التداعيات الطويلة لهذا الصراع ستكون مفيدة للديمقراطية التركية.

إعادة تشكيل الجوار

لطالما تأثر نهج أنقرة تجاه دول الجوار بصراعها مع "حزب العمال الكردستاني" ومع وجوده أو فروعه في العراق وسوريا وإيران؛ حيث اعتبرت جوارها والطموحات السياسية الكردية تهديدًا، وفي بعض الأحيان نظرت إلى الأكراد كحاجز بينها وبين بقية دول الشرق الأوسط؛ فالمجتمعات التي تعيش على جانبي حدود تركيا مع سوريا والعراق وإيران ذات أغلبية كردية. ومن هنا، فإن نجاح السلام الكردي لن يعيد تعريف علاقات تركيا مع الأكراد داخل أراضيها فحسب، بل سيعيد تعريف علاقاتها أيضًا مع الأكراد في منطقة الشرق الأوسط، وسيتطلب ذلك ألا يكون للأتراك والأكراد هويات جيوسياسية متعارضة.

من الناحية العملية، يعني هذا أن علاقات تركيا مع الأكراد السوريين يجب أن تتطور لتشبه علاقاتها مع الأكراد العراقيين، التي تحوّلت من علاقات متوترة إلى وثيقة وودية (ليس أقلها العلاقات بين أنقرة والحزب الديمقراطي الكردستاني). وستكون سوريا بمثابة أرض اختبار ونموذج مصغر لشكل جديد من العلاقات بين تركيا والأكراد في المنطقة. وإذا نجحت عملية السلام، فقد يدفع ذلك النخب السياسية في تركيا إلى إعادة تصور جوارها على أنه جوار يصبح فيه الأكراد حليفًا طبيعيًا لتركيا، وجسرًا بين أنقرة وبقية دول الشرق الأوسط.

مستقبل تركيا دوليًا بعد "العمال الكردستاني"

قد يكون لعملية السلام أيضًا تأثير عميق على العلاقات الدولية الأوسع لتركيا؛ فعلى المستوى الإقليمي تنافست تركيا وإيران لفترة طويلة، وفي بعض الأحيان تعاونتا بشأن الجغرافيا السياسية الكردية الإقليمية. فمن جهتها، تتمتع إيران بعلاقات متطورة مع الأحزاب الكردية الأكثر ميلًا إلى اليسار والعلمانية، لا سيما "الاتحاد الوطني الكردستاني" في كردستان العراق و"حزب العمال الكردستاني" وفروعه الإقليمية. بالمقابل، تتمتع تركيا بعلاقات وثيقة مع السياسة الكردية الأكثر محافظة أو تقليدية، مثل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" وفروعه الإقليمية.

وقد كان الصراع بين تركيا و"العمال الكردستاني" ميزة لإيران ونقطة ضعف لتركيا، وإذا قام الحزب بحل نفسه بشكل جدي، فإن هذا سيعيد تموضع ومكانة كل من تركيا وإيران في الجغرافيا السياسية الكردية الإقليمية، ربما لصالح تركيا. بالمثل وعلى صعيد إقليمي آخر، فإن حل الحزب قد يوجه ضربة لسياسة "إسرائيل" تجاه سوريا وتركيا؛ حيث تريد "إسرائيل" استغلال تطلعات ومخاوف المجتمعين الدرزي والكردي لإبقاء سوريا مجزأة، والحصول على ميزة في منافستها مع تركيا.

أما على الصعيد الدولي، فإن مستقبل القضية الكردية في تركيا وعلاقاتها مع الأكراد الإقليميين سيعيد تشكيل علاقات أنقرة مع كل من الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا؛ فلم تسمّم أي قضية العلاقات الأمريكية التركية بقدر ما فعل الصراع السوري، كما كانت سوريا مهد العلاقات التركية الروسية الوثيقة. لكن الأمر لم يكن يتعلق حقًا بسوريا؛ فقد كانت القضية الأساسية في كلتا الحالتين هي القضية الكردية.

وقد كانت شراكة الولايات المتحدة مع "وحدات حماية الشعب "الكردية السورية (YPG) التابعة لحزب العمال الكردستاني، والتي تحوّلت لاحقًا إلى "قوات سوريا الديمقراطية" (SDF) أو "قسد"، هي التي تسببت في الصدع العميق في العلاقات بين واشنطن وأنقرة. وبالمثل، فإن سعي أنقرة لوقف مكاسب "وحدات حماية الشعب" الإقليمية شمال غرب سوريا عام 2016، قد دفعها إلى تغيير نهجها في سوريا، حيث بدأت تُعطي الأولوية لتراجع مكاسب "وحدات حماية الشعب" على تغيير النظام، ولتحقيق هذا الهدف أصلحت علاقاتها مع موسكو، الحليف القديم لنظام "الأسد".

كما وصلت العلاقات بين تركيا وروسيا إلى أدنى مستوياتها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسية انتهكت مجالها الجوي. في ذلك الوقت، كانت روسيا الفاعل الخارجي الرئيسي شمال غرب سوريا، ولم تتمكن أنقرة من شن عمليات عسكرية في تلك المنطقة إلا من خلال الاتفاق مع موسكو. وقد وضع هذا الانخراط الأساس لإنشاء "منصة أستانا" نهاية عام 2016، وهي عملية قادتها كل من تركيا وروسيا وإيران، والتي غيرت مسار الحرب الأهلية السورية. من ناحية أخرى، لطالما كانت القضية الكردية والانتهاكات السياسية وانتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بها، شوكة في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وقد أدت شراكة فرنسا مع "قسد" في سوريا إلى احتكاك كبير في علاقاتها مع تركيا.

من هنا، يمكن القول إن عملية السلام قد تكون لها آثار إيجابية على علاقات تركيا مع الغرب؛ إذ يمكن أن يؤدي حل "حزب العمال الكردستاني" إلى إزالة إحدى أكبر العقبات في العلاقات التركية الأمريكية، ما سيقلل من معارضة أنقرة للوجود الأمريكي في سوريا ويحسن المناخ العام للعلاقات الثنائية، وقد يساعد ذلك أيضًا في تحسين العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. على النقيض من ذلك، فإن السلام الكردي سيزيل أحد مصادر ضعف تركيا في علاقاتها مع روسيا، ويمكن أن يقلل من اعتماد أنقرة النسبي على موسكو.

والخلاصة، إن عملية السلام مع "العمال الكردستاني" تاريخية وفريدة من نوعها، لكنها أيضًا في مراحلها الأولى وهشة، وبالتالي فهي بحاجة إلى ما يعززها من إصلاحات قانونية وسياسية ودستورية في تركيا. وفي حين أن هناك دعمًا واسع النطاق من المستوى السياسي الكردي والتركي لإنهاء الكفاح المسلح، فإن هذا الإجماع يحتاج الآن إلى التوسع ليشمل دعم الإصلاح القانوني. كما إن العملية البرلمانية الشاملة، بمشاركة المعارضة، ضرورية أيضًا لحماية عملية السلام في المستقبل من الآثار الضارة للاستقطاب السياسي في البلاد. وإذا تم تحقيق سلام كردي دائم، فسيكون عاملًا أساسيًا في تغيير السياسة الداخلية لتركيا ومستقبلها الدولي.