المصدر: نيو لاينز إنستيتيوت
ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات
دخلت الحرب الأهلية المستعصية في السودان عامها الثالث في نيسان/ أبريل الماضي؛ حيث يتواصل القتال الدائر بين الفصيلين العسكريين الرئيسيين في البلاد، قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، في ظل تدهور القطاعات الأمنية والسياسية والاقتصادية في البلاد. وقد استقطبت الحرب، التي شردت ملايين الأشخاص وخلّفت ما لا يقل عن 150 ألف قتيل، مشاركة قوى إقليمية عديدة مع تدفق الدعم للمقاتلين على كلا الجانبين، وهو ما ساعد في تأجيج القتال واستمراره.
من جهتها، لم تعطِ الولايات المتحدة حتى الآن إلا اهتمامًا ضئيلًا لهذا الصراع، رغم المخاطر التي يشكلها على مصالحها الاستراتيجية الحيوية على عدة جبهات، بما في ذلك صعود الفصائل الإسلامية التي قد تهدد الأمن القومي الأمريكي في نهاية المطاف؛ وتوسّع النفوذ الروسي والصيني والإيراني في منطقة البحر الأحمر، وتفاقم عدم الاستقرار في جميع أنحاء أفريقيا والذي قد يوسع الصراع من ساحل غرب أفريقيا إلى البحر الأحمر.
التدخل الأمريكي الحالي يقتصر على عقوبات وتصريحات ومساعدات
كان التدخل الأمريكي في الحرب محدودًا لدرجة كبيرة بسبب ضعف تركيزه على القارة الأفريقية، بينما جاء التدخل الأكثر مباشرة للحكومة الأمريكية في السودان على شكل مساعدات إنسانية وعقوبات ضد كلا الجانبين، بسبب الجرائم ضد المدنيين. ففي أيار/ مايو، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على حكومة السودان لاستخدامها الأسلحة الكيميائية عام 2024، وتشمل هذه العقوبات قيودًا على الصادرات إلى السودان وعقوبات على أصول ودخل مسؤولين بارزين في القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
إضافةً لذلك، يُشار إلى السودان باستمرار في شهادات الكونجرس كأحد المخاوف الأمنية الرئيسية في القرن الأفريقي وفي أفريقيا بشكل عام. لكن رغم أن هذه التصريحات تُبرز قلقًا بشأن الصراع بين كبار المسؤولين، فلم تتخذ الولايات المتحدة سوى خطواتٍ طفيفة للتخفيف من حدة الأزمة. وطوال فترة الصراع، حاولت الولايات المتحدة التوسطَ للسلام بين الجانبين مرتين، وذلك من خلال منصة جدة بالتعاون مع السعودية ومحادثات السلام في جنيف. وبشكلٍ عام وخارج نطاق العقوبات، لا تُركز الولايات المتحدة على حل الصراع، رغم الاهتمام الواضح من قِبَل المشرعين بهذه القضية.
نتيجة لذلك، أدى تقاعس الولايات المتحدة عن اتخاذ أي إجراء بشأن الحرب في السودان إلى خلق خطرين رئيسيين لهما آثار بعيدة المدى؛ الأول فقدان موطئ قدم استراتيجي محتمل في منطقة البحر الأحمر، أما الخطر الثاني فهو امتداد الصراع إقليميًا وتبعاته. ولهذه المخاطر آثارٌ مباشرة على المصالح الأمريكية في المنطقة وبقية دول أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط:
تبعات فقدان موطئ قدم استراتيجي في المنطقة
قد يوفر الموقع الجغرافي للسودان قيمة استراتيجية هائلة للولايات المتحدة؛ حيث يمتلك السودان سواحل على البحر الأحمر تمتد لأكثر من 500 ميل، بما فيها منفذه الرئيسي إلى البحر في بورتسودان. ونظرًا لأن البحر الأحمر يُسهّل ما يقرب من 12% من التجارة البحرية العالمية، فإن الوصول إليه من شأنه أن يمنح أي جهة فاعلة نفوذًا اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا فوريًا على الشرق الأوسط الأوسع والتجارة العالمية.
من جهة أخرى، فإن تجاهل الولايات المتحدة للصراع ترك فراغًا يمكن للآخرين استغلاله؛ ومن أبرز الأمثلة على ذلك محاولة كل من روسيا والصين وإيران ترسيخ وجودهم في بورتسودان. فقد استثمرت الصين بكثافة في البنية التحتية و"أعربت عن اهتمامها" بإنشاء تواجد لها في بورتسودان، فيما بذلت روسيا جهودًا أكبر لإنشاء قاعدة عسكرية هناك؛ ففي شباط/ فبراير، صرّح وزير الخارجية السوداني، علي يوسف، بأنه لا توجد عقبات أمام إنشاء قاعدة بحرية روسية في بورتسودان، ما أثار قلق العديد من المسؤولين الغربيين. وبموجب الاتفاق، تستطيع روسيا إنشاء قاعدة بحرية تضم 300 فرد إضافةً إلى السفن الحربية وربما الغواصات المتمركزة هناك، ما يمنح موسكو القدرة على إبراز قوتها في المنطقة ومواجهة المصالح الغربية وتهديد طرق التجارة البحرية العالمية، وحتى تهديد الجناح الجنوبي لحلف "الناتو"، رغم أن الاتفاق يتطلب موافقة برلمان سوداني منتخب، وهو غير موجود حاليًا.
من جانبها، أعربت إيران عن اهتمامها العميق بتأسيس وجود بحري خاص بها في بورتسودان، وتزويد القوات المسلحة السودانية بالأسلحة في محاولة لتعزيز طموحاتها هناك. وتتطلع طهران لممارسة مزيد من النفوذ في منطقة معقدة بالفعل بسبب الضربات الحوثية المتكررة على السفن الغربية. وبالتالي، فهناك خطر من أن القوات المسلحة السودانية قد توفر لإيران إمكانية الوصول إلى الموانئ في الوقت المناسب؛ فالاحتياجات الأمنية للجيش السوداني تظهر الحاجة لاستيراد الأسلحة بشكل عاجل من جهات خارجية. وإذا تمكنت إيران من الوصول إلى قاعدة بحرية في بورتسودان أو كان لها وجود صغير في البحر الأحمر، فإن التهديدات للسفن الغربية وطرق التجارة البحرية العالمية ستزداد بشكل كبير. فمن خلال الوجود البحري في بورتسودان، سيتمكن النظام الإيراني من تعطيل التجارة البحرية العالمية في البحر الأحمر، وتهديد كل من السعودية و"إسرائيل"، وتشكيل تهديد إضافي للأصول البحرية الغربية في المنطقة، بما يتجاوز وكيله الحوثي. ومن هنا، فإن الفراغ الذي سيخلفه غياب التدخل الأمريكي في صراع السودان سيسمح لهؤلاء الخصوم باستغلال وجودهم في البحر الأحمر وتهديد المصالح الغربية.
خطر الامتداد الإقليمي للصراع
يُمثل خطر الامتداد الإقليمي للصراع دافعًا قويًا آخر للتدخل الأمريكي؛ فقد أصبحت منطقة القرن الأفريقي الكبرى بؤرةً لعدم الاستقرار داخل دول عديدة وبين بعضها البعض، وهو ما قد يؤدي لمزيد من التجارة غير المشروعة وانتشار الجماعات المتمردة، إضافةً إلى تأثير ذلك على التجارة العالمية. فإلى جانب السودان، تشهد أربع دول إقليمية اضطرابات مزعزعة للاستقرار أو صراعًا مباشرًا؛ حيث تشهد الصومال تمردًا كبيرًا من قبل "حركة الشباب" وسط انقسامات بين الولايات الفيدرالية، بينما يمر جنوب السودان بأزمة سياسية ويعتبر على شفا حرب أهلية. وإلى الجنوب من القرن الأفريقي، تخوض إثيوبيا حربًا أهلية مع ميليشيات "فانو"، بينما اجتاحت اضطرابات سياسية خانقة دولة كينيا. وخارج تلك المنطقة، تشهد ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، اللتان تشتركان في الحدود مع السودان، صراعات داخلية نشطة كذلك.
تنامي عدم الاستقرار شمال شرق أفريقيا
إن خطر امتداد الحرب السودانية إلى جيرانها كبير، إضافةً إلى إمكانية تفاقم الصراعات في البلدان الهشة أصلًا؛ فحتى نيسان/ أبريل 2025 فرّ أكثر من 3.9 مليون لاجئ سوداني إلى الدول المجاورة؛ منهم 1.1 مليون إلى جنوب السودان؛ و775 ألفًا إلى تشاد؛ و256 ألفًا إلى ليبيا؛ و72 ألفًا إلى إثيوبيا؛ و42 ألفًا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى. وقد أدى تدفق اللاجئين إلى إجهاد كبير لقدرات الخدمات العامة في تلك البلدان، وزاد من انتشار الأمراض، وأدى لاكتظاظ مخيمات اللاجئين.
إضافةً لذلك، يُفاقم الصراع السوداني بشكل مباشر انعدام الأمن بين جيرانه، خصوصًا تشاد وليبيا وجنوب السودان؛ فعلى سبيل المثال أصبحت تشاد مركزًا لشحنات الأسلحة غير المشروعة والمساعدات العسكرية لقوات الدعم السريع. وفي شرق ليبيا، اتُّهم الجيش الوطني الليبي الذي يقوده "حفتر" بدعم قوات الدعم السريع بشكل مباشر، من خلال المساعدات والدعم العسكري بالقرب من الحدود المشتركة. كما انضمت بعض الميليشيات البارزة جنوب السودان إلى قوات الدعم السريع، ما زاد من توافر طرق التهريب غير المشروعة ومسارح العمليات.
وبالتالي، فإن الحرب في السودان ستخلّف تداعيات خطيرة على جيرانها وعلى منطقة القرن الأفريقي، ولن تؤدي إلا إلى تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي إذا لم يُتخذ أي إجراء. إضافةً لذلك، وفي ظل غياب التدخل الأمريكي، فإن استمرار تدهور السودان سيزيد من تفاقم أزمة المهاجرين التي تؤرق أمريكا وأوروبا، وستؤثر الحرب وتداعياتها على القارة بشكل مباشر على المصالح السياسية والأمنية الأمريكية.
القوة الناعمة تحافظ على سمعة واشنطن كصانعة سلام
إن سمعة الولايات المتحدة كصانعة سلام أمر بالغ الأهمية لقدراتها في القوة الناعمة، وستستفيد واشنطن و"ترامب" من الاهتمام بالحرب السودانية من خلال تعزيز سمعتها كصانعة سلام، مع تعزيز قدراتها في مجال القوة الناعمة والحفاظ على مصداقيتها على الساحة العالمية.
فعلى سبيل المثال، أنهى اتفاق السلام بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، الذي توسطت فيه إدارة "ترامب"، صراعًا دام ثلاث سنوات، إضافةً لتعزيزه التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة. وعلى المستوى الاستراتيجي، أكد الاتفاق على قدرة البلاد على إنهاء النزاعات من خلال القوة الناعمة، وأظهر عمق النفوذ الأمريكي، رغم تشكيك كثيرون في ذلك. وقد يوفر تدخل مثل هذا في السودان فرصة أخرى للولايات المتحدة لإظهار مكانتها كحكم رئيسي للسلام، ويعزز مصداقيتها في التوسط في النزاعات المستقبلية. كما إن تعزيز المصداقية للولايات المتحدة سيسمح لها بلعب دور رئيسي على طاولة الوساطة؛ إذ يمكنها التوسط في السلام وتحقيق مكاسب لمصالحها من أي صراع.
بدوره، يُولي "ترامب" اهتمامًا فريدًا بأفريقيا مقارنةً بالإدارات السابقة، من خلال عقد القمم واتفاقيات السلام مع عدة دول مختلفة. وقد صرّح وزير خارجيته، ماركو روبيو، بأن السودان يُمثّل الأولوية الأمريكية التالية للوساطة في القارة، وفي حال نجاح التدخل في السودان يُمكن للإدارة الأمريكية التركيز على قضايا إقليمية وقارية أخرى. ومن خلال ممارسة تكتيكات التدخل منخفضة التكلفة، مثل محادثات السلام أو الوساطة في السودان، تُبرهن الولايات المتحدة على دورها كصانعة سلام، وتكتسب مصداقية كشريك ومفاوض موثوق، وتُسهم في تحقيق السلام في المنطقة.
خيارات التدخل الأمريكي في الحرب السودانية
1- تعيين مبعوث رئاسي إلى السودان:
لم تُعيّن الولايات المتحدة مبعوثًا خاصًا إلى السودان منذ استقالة "توم بيرييلو" قبل تولي "ترامب" منصبه. إن وجود مبعوث خاص للولايات المتحدة يُتيح اتخاذ الخطوة الحقيقية الأولى في التدخل، من خلال وجود ممثل رسمي للحكومة يُركّز على الصراع. ورغم أن هذا المنصب يتطلب موافقة مجلس الشيوخ، فقد أعرب العديد من أعضاء مجلس الشيوخ عن اهتمامهم بوجود قناة رسمية لمشاركة الولايات المتحدة في الصراع. كما أكد نائب رئيس حكومة السودان المعترف بها دوليًا، مالك عقار، على رغبة الشعب السوداني في أن يصل صوته إلى الولايات المتحدة، وعليه سيكون تعيين مبعوث وسيلة بسيطة لكنها فعالة لكسب دعم الشعب السوداني.
2- توسيع نطاق التواصل مع الجهات الفاعلة الخارجية:
يجب على الولايات المتحدة مواصلة تواصلها الدبلوماسي مع الجهات الفاعلة الخارجية المنخرطة في الصراع؛ فقد كان أحد العوامل الرئيسية في استمرار الصراع دعم الجهات الفاعلة الخارجية لقوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية. وقد استضاف نائب وزير الخارجية الأمريكي، كريستوفر لاندو، ومستشار "ترامب" لشؤون أفريقيا، مسعد بولس، كلًا من السعودية والإمارات ومصر في الثالث نت حزيران/ يونيو الماضي لمناقشة الأزمة المستمرة في السودان. وقد نشأ خلاف رئيسي بين الوسطاء، مثل الولايات المتحدة ومصر، وبين الأطراف المتحاربة حول مسألة إشراك قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية في محادثات السلام. وينبغي على الولايات المتحدة أن تفكر مليًا في إشراك الجانبين، أو على الأقل القوات المسلحة السودانية، في أي مناقشات لوقف إطلاق النار. فالتنسيق مع هذه الجهات الفاعلة الداخلية والخارجية الرئيسية هو الخطوة الأولى في الحد من التدخل الخارجي، ومن ثمّ التخفيف من حدة الصراع. كما يمكن للولايات المتحدة أن تبني على مؤتمرات، مثل هذا المؤتمر، للتوصل إلى اتفاق دائم بين الجهات الفاعلة الخارجية، لكن ذلك يتطلب جهدًا مستمرًا في التواصل الدبلوماسي، سواء من خلال مثل هذه المؤتمرات أو من خلال التواصل المباشر البسيط مع كبار المسؤولين.
3- ممارسة الضغط على الإمارات:
إن الولايات المتحدة تستطيع ممارسة ضغط دبلوماسي وعلني على الإمارات بخصوص دعمها لقوات الدعم السريع؛ فقد كان الدعم العسكري والمالي الإماراتي جوهر القدرات العملياتية لتلك القوات والتي استخدمتها لارتكاب فظائع جماعية. فيمكن للحكومة الأمريكية التهديد علنًا بوقف مبيعات الأسلحة إلى الإمارات، التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على صادرات الأسلحة الأمريكية، وهو ما يمنح الولايات المتحدة نفوذًا لردع الإمارات عن دعمها. كما يمكن للولايات المتحدة لفت انتباه الرأي العام إلى دور الإمارات في الصراع، من خلال بيانات علنية صادرة عن وزارة الخارجية، أو عقوبات من وزارة الخزانة، أو قرارات من الكونغرس تدين أفعالها. إن هذه الخطوات تمثل استراتيجية فعالة لردع دعم الإمارات لقوات الدعم السريع، وهو ما يحظى أيضًا بدعم الكونغرس.