الظروف الجيوسياسية وحروب الشرق الأوسط توفر فرصة لنهوض تركيا كقوة عظمى

الساعة : 10:07
12 سبتمبر 2025

المصدر: جيوﭘوليتيكال فيوتشرز

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

تنبأ كتاب "المئة عام القادمة"، الذي ألّفه جورج فريدمان، والذي نُشر قبل نحو 15 عامًا، بظهور ثلاث قوى عظمى خلال العقود القليلة القادمة، هي اليابان وبولندا وتركيا؛ حيث يُظهر اقتصاد اليابان المستقر والمتنامي وتركيزها على التطوير العسكري نموًا ثابتًا، وإن كان هادئًا، في قوتها، فيما تعتبر بولندا الآن خامس أكبر اقتصاد في أوروبا، ورائدة قارية في مجال التطوير العسكري. رغم ذلك، فإن قوى عظمى تُقيّد كلا البلدين؛ فعلى اليابان أن تُنافس الصين، وعلى بولندا أن تُنافس روسيا، باعتبارها تقع خلف أوكرانيا.

وقد حان وقت تألق تركيا؛ فهي تمتلك جيشًا قويًا واقتصادًا ضخمًا، وإن كان نموهما متواضعًا، لكنهما يُظهران إمكاناتٍ لا تُضاهيها إلا قلةٌ من دول المنطقة. والأهم من ذلك، أنها تمتلك فرصةً جيوسياسيةً هائلة؛ فمع غرق روسيا في وحل حرب أوكرانيا، وسعي الولايات المتحدة لتقليص نفوذها العالمي، وتكبد إيران خسائر في جميع أنحاء المنطقة، ازدادت تعقيدًا بسبب انتقال قيادتها الداخلية، وترنح "إسرائيل" من أزمات داخلية وخارجية، كل هذا يمنح تركيا فرصًا يمكن أن استغلالها في أي اتجاه لتحقيق مصالحها الأساسية.

وقد نجحت بالفعل في بعض الحالات؛ فحتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا لعبت تركيا دورًا حاسمًا في مساعدة أذربيجان على هزيمة أرمينيا في حرب إقليم ناغورنو كاراباخ عام 2020، والتي أسفرت عن تحول تاريخي في ميزان القوى على الجناح الشرقي لتركيا. وقد سمح استيلاء باكو على الإقليم لكل من أرمينيا وأذربيجان بالنأي بنفسيهما عن روسيا والتحالف مع تركيا. وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإن اتفاقية السلام بين أذربيجان وأرمينيا، المزمع توقيعها قريبًا، ستسهل على أنقرة تطوير ممر زانجيزور، وهو شريان اقتصادي يعبر جنوب القوقاز، وستسمح لتركيا بالتواصل مع منطقة بحر قزوين والمناطق الحدودية في آسيا الوسطى.

في الوقت ذاته، كانت تركيا الرابح الأكبر في الصراع "الإسرائيلي" الإيراني؛ حيث أدى تدمير قيادة "حزب الله" وقدراته الهجومية إلى انهيار نظام "الأسد"، كما أدت هجمات "إسرائيل" لاحقًا على إيران إلى إضعاف الجمهورية الإسلامية بشكل خطير. وبدورها، استغلت تركيا الفرصة بسرعة لضم سوريا إلى دائرة نفوذها، ودعمت إحدى مجموعاتها التابعة للسيطرة على العاصمة دمشق. كما حسّنت أنقرة علاقاتها مع دول عربية رئيسية، مثل السعودية والإمارات، ووافقت رسميًا على مشاركة مصر في برنامج مقاتلات الشبح "KAAN" (TF-X)، ما يُمثل خطوة محورية في التعاون الدفاعي الثنائي، وبدأت تعزيز نفوذها في ليبيا لاستعراض قوتها غربًا في البحر المتوسط.

وفي الشمال، تُكافح القوى الأوروبية لصياغة هيكل أمني جديد في ظل انسحاب الولايات المتحدة من الضمانات الأمنية عبر الأطلسي، وهنا أيضًا تغتنم تركيا الفرصة؛ حيث تُحاول أولًا بناء علاقة أوثق مع بولندا، كما يتضح من زيارة رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، إلى أنقرة في آذار/ مارس الماضي، لتنسيق الجهود المشتركة لتحقيق الاستقرار في أوكرانيا واستكشاف خيارات تركيا في الأطر الأمنية لما بعد الحرب.

ثانيًا، ومع تزايد حالة عدم الاستقرار في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، تُسرّع أنقرة جهودها لتوسيع نفوذها في البلقان؛ فقد أطلقت مؤخرًا "منصة سلام البلقان"، التي استضافت اجتماعًا في إسطنبول مع وزراء خارجية البوسنة والهرسك والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وصربيا وكوسوفو، إضافةً إلى نائب وزير من ألبانيا.

وقد أصبح الكثير من هذه الخطوات ممكنًا بفضل موسكو؛ فتراجع روسيا، خصوصًا بعد غزوها لأوكرانيا، له تداعيات على جناحها الجنوبي، وتركيا قادرة بشكل فريد على جني ثمار ذلك التراجع. وفي السنوات القادمة، ستتضاءل قدرة موسكو على إبراز قوتها في حوض البحر الأسود، بينما عززت أنقرة بالفعل دورها البحري هناك، بشكل منفرد وبالتنسيق مع "الناتو". كما وضعت تركيا نفسها كمحاور بين روسيا وأوكرانيا، وبالمثل فهي بصدد تعزيز التجارة والتواصل والعلاقات الأمنية مع جورجيا ورومانيا وبلغاريا.

من المعروف أنه في مجال الجغرافيا السياسية، لا يعتمد ظهور قوة عظمى على امتلاك القوة والطموح فحسب، بل يعتمد أيضًا على استغلال الفرصة والسعي لتحقيقهما معًا. ويبدو أن تركيا تتلاءم مع هذا الشرط؛ فهي تحتل موقعًا جيوسياسيًا استراتيجيًا على جانبي أوروبا والشرق الأوسط والبحر المتوسط. وقد ضغط هذا الموقع على تركيا لأكثر من قرن، لكن إلى جانب قدراتها العسكرية والاقتصادية الحالية، فإن هذا الوضع يحمل في طياته وعدًا بتحرير تركيا من قيودها. وبالنظر إلى المشاكل الداخلية التي تواجهها تركيا، يبقى أن نرى إذا كانت تستطيع الاستفادة من ذلك أم لا.