قراءة في إعادة التموضع العسكري الروسي في الشرق الأوسط عقب سقوط "الأسد"

الساعة : 14:15
23 ديسيمبر 2025

المصدر: أتلانتك كاونسل

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

عندما انهار نظام "بشار الأسد" في ديسمبر/ كانون الأول 2024، اعتقد كثير من المحللين أن روسيا أوشكت على فقدان البنية التحتية العسكرية التي بنتها على مدار العقد الماضي؛ حيث بدا وصول موسكو إلى قاعدة حميميم الجوية (ذات الأهمية الاستراتيجية) وإلى مرفأ طرطوس البحري غير مضمون، في ظل إعادة السلطات السورية الجديدة تقييم علاقاتها الخارجية. وأشارت تقارير إعلامية إلى فرض قيود جديدة على الوجود الروسي، والدخول في مفاوضات لإعادة ترتيب الاتفاقات مع السلطات السورية الجديدة، بما حدّ من حرية حركة القوات الروسية.

وقد أثار ذلك مخاوف لدى صانعي القرار الغربيين من احتمال أن تعيد روسيا توجيه تموضعها الإقليمي نحو ليبيا إذا تراجع نفوذها في سوريا، مستندة إلى علاقاتها القائمة مع "الجيش الوطني الليبي" بقيادة، خليفة حفتر، لتأمين الوصول إلى شرق ليبيا وبنيتها التحتية العسكرية، محوِّلة البلاد إلى مركز لوجستي يمكّنها من توسعة نفوذها عميقًا داخل القارة الأفريقية.

وبعد عام واحد، تبدو أوضاع روسيا في سوريا أفضل مما توقعه كثيرون في الأيام الأولى التي أعقبت سقوط "الأسد"؛ فقد حافظت موسكو على وجود عسكري أقل حجمًا لكنه متماسك وقابل للاستمرار. وأعادت اللقاءات رفيعة المستوى بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والرئيس السوري، أحمد الشرع، تأكيد دور روسيا في البلاد، كما التزم "الشرع" علنًا باحترام الاتفاقات العسكرية السابقة؛ والنتيجة هي بصمة روسية أكثر تقييدًا لكنها لا ترقى إلى خسارة استراتيجية.

ورغم أن "الخطة البديلة" في ليبيا لم تكن ضرورية، فقد أمضت روسيا العام الماضي في تعزيز شبكتها اللوجستية شرق وجنوب ليبيا؛ فالقواعد الجوية الليبية، بوصفها محطات عبور، تمنح موسكو القدرة على الوصول إلى عمق القارة الأفريقية، حيث تزرع بذور عدم الاستقرار عبر شحنات السلاح ونشر عناصر "فيلق أفريقيا"، وهو تشكيل شبه عسكري خاضع لوزارة الدفاع الروسية تم وضعه خلفًا لمجموعة "فاغنر".

لماذا أصبح جنوب ليبيا المنصة الاستراتيجية الجديدة لروسيا؟

بحلول أواخر عام 2024، وقبل أن تتضح ملامح مستقبلها في سوريا ما بعد "الأسد"، كانت روسيا تبحث بشدة عن بدائل لعلاقات استراتيجية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد رشحت معلومات عن رحلات جوية من سوريا إلى شرق ليبيا، وتحركات للأفراد والمعدات، وزيارات دبلوماسية لمسؤولين روس إلى شرق البلاد، في ظل تنامي مخاوف غربية من سعي روسيا إلى إنشاء ميناء بحري شرق ليبيا. وبعد مرور عام، لم تتمكن موسكو بعد من تأمين منفذ بحري على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، وذلك على الأرجح بسبب تردد سلطات شرق ليبيا في تعريض علاقاتها المتحسنة مع الولايات المتحدة وتركيا والشركاء الأوروبيين للخطر، عبر منح روسيا منفذ ساحلي كبير.

وبدلًا من ذلك، وسّعت روسيا حضورها داخل العمق الليبي؛ حيث تُعد قاعدة "معطن السارة الجوية" مثالًا بارزًا على ذلك؛ إذ تقع هذه القاعدة ذات الموقع الاستراتيجي قرب الحدود مع تشاد والسودان، وتُستخدم كنقطة انطلاق لعمليات روسية مزعزعة للاستقرار عبر منطقة الساحل. وقد سبق هذه القاعدة انهيار نظام "الأسد"، ويُقال إن الإمارات موّلتها، لكن ابتداءً من ديسمبر/ كانون الأول 2024، تم نقل معدات وأفراد روس ومقاتلين سوريين مرتبطين بنظام "الأسد" إلى هذه القاعدة الصحراوية.

ورغم أهمية قاعدة "معطن السارة" في الوجود الروسي جنوب ليبيا، إلا أن موسكو تعتمد على عدة مطارات ضمن ممر عبور نحو منطقة الساحل. وتشمل هذه القواعد: الخادم شرق ليبيا، والجفرة وسط البلاد، وبراك الشاطئ قرب سبها، والقرضابية جنوب سرت. وتشكل هذه المواقع المتفرقة معًا شبكة عبور مرنة تربط تواجد روسيا في سوريا بنشاطها المتنامي في الساحل، ما يعزز قدرتها على دعم انتشار "فيلق أفريقيا" وإمداد شركائها الأفارقة بالسلاح. كما تخضع هذه الشبكة الداخلية لرقابة دولية أقل، وتتطلّب تنازلات سياسية محدودة من السلطات الليبية، وتمنح موسكو مسارات بديلة تدعم تحركات لوجستية بعيدة المدى.

مواجهة مكاسب روسيا في ليبيا

لم يمرّ تنامي الوجود الروسي في ليبيا خلال العام الماضي دون رد؛ فقد سعت الولايات المتحدة وشركاؤها الدوليون الرئيسيون إلى كبح أنشطة روسيا ونفوذها، عبر استراتيجية تهدف لتسريع توحيد المؤسسة العسكرية بين شرق ليبيا وغربها، مع تقديم وعود بالتعاون الأمني والتدريب. وكان نائب قائد الجيش الوطني الليبي، صدام حفتر، محور هذه الجهود الرامية لفك الارتباط بين قيادة الجيش الوطني الليبي والنفوذ الروسي.

وفي فبراير/ شباط الماضي، أرسلت الولايات المتحدة طائرتين من طراز "B-52H ستراتوفورتريس" إلى الأجواء الليبية، ضمن تدريب مشترك مع مراقبي التوجيه الجوي التكتيكيين الليبيين. وفي أبريل/ نيسان، نفذت البحرية الأمريكية أول زيارة إلى موانئ ليبيا منذ أكثر من خمسين عامًا، شملت طرابلس وبنغازي. وفي الشهر نفسه، استضافت أنقرة صدام حفتر، بينما أجرت البحرية التركية في أغسطس/ آب زيارات موانئ إلى كل من طرابلس وبنغازي.

وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي، استضافت الولايات المتحدة اجتماعًا لكبار المسؤولين حول ليبيا، بمشاركة ممثلين عن مصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وقطر والسعودية وتركيا والإمارات والمملكة المتحدة. وجرى التأكيد على أهمية دمج الأمن بين الشرق والغرب الليبيين، وكذلك على ضرورة تعديل حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة في يناير/ كانون الثاني 2025، بما يتيح التدريب المشترك والمساعدة التقنية دعمًا لعملية الدمج.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلن نائب قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم"، جون برينان، أن ليبيا ستشارك وتستضيف جزءًا من مناورات "فلينتلوك" السنوية للجيش الأمريكي في ربيع 2026. وقال "برينان" إن "هذا التمرين لا يقتصر على التدريب العسكري فحسب، بل يهدف لتجاوز الانقسامات، وبناء القدرات، ودعم الحق السيادي لليبيا في تقرير مستقبلها."

وخلال الأسبوع الأول من ديسمبر/ كانون الأول، التقى قائد "أفريكوم"، داغفين أندرسون، في طرابلس نائب وزير الدفاع، عبد السلام الزوبي، ورئيس الأركان، الفريق محمد الحداد، كما التقى في بنغازي خليفة حفتر ونجله نائب صدام. وتركزت المناقشات على الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ودعم الجهود الليبية لتوحيد المؤسسات العسكرية، وتعزيز التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وليبيا، بما في ذلك مناورات "فلينتلوك 26".

ورغم أن هذه الجهود الأمريكية والدولية قد تكون أسهمت في دفع مسار التكامل العسكري بين الشرق والغرب، فإن مدى نجاحها في كبح الأنشطة الروسية أو فصل روسيا عن قيادة الجيش الوطني الليبي لا يزال غير واضح. فالحوافز، مثل منح الشرعية والتعاون الأمني، قد لا تكون كافية وحدها لإبعاد الجيش الوطني الليبي عن الفلك الروسي، وقد تكون هناك حاجة أيضًا إلى أدوات ضغط اقتصادية كالعقوبات الموجهة.

إن القضاء على استخدام روسيا لليبيا، أو تقليصه إلى حد كبير، كمحطة عبور لشحنات السلاح وتدفق الأفراد إلى منطقة الساحل سيكون خطوة مهمة نحو تعزيز الاستقرار وإنهاء الصراعات في القارة الأفريقية. وينسجم ذلك مع أولويات بناء السلام لدى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، التي تم دفعها قدمًا خلال العام الماضي من قبل مستشاره الأول، مسعد بولس.

وبعد عام على سقوط نظام "الأسد"، قد لا تكون أهم القواعد الروسية في المنطقة قاعدة حميميم الجوية أو مرفأ طرطوس البحري في سوريا، بل مجموعة من القواعد الجوية الصغيرة المتناثرة في أنحاء ليبيا، وهو ما يمثل جبهة محورية في جهود واشنطن وشركائها لمواجهة روسيا.