المصدر: جيوپوليتيكال إنتيليجنس سيرفيسِز
ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات
مقدمة
منذ أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي، يشهد المغرب موجة من الاحتجاجات لم تقتصر على كبريات المدن الحضرية، مثل الرباط والدار البيضاء ومراكش، بل امتدت أيضًا إلى المدن المتوسطة والبلدات الصغيرة في مختلف أنحاء البلاد. ويتصدر الشباب المغربي قيادة ما أصبح يُعرف بتعبئة "جيل زد 212"، وهي فئة عمرية تضم الشباب المولودين بين عامي 1997 و2012، مع الإشارة إلى رمز الهاتف الوطني (212+) للدلالة على جذورهم الراسخة في السياق المغربي.
ويمثل هذا الحراك مجموعة شبابية رقمية المنشأ غير مركزية التنسيق وسلمية في معظمها؛ حيث ظهرت لأول مرة في 18 أيلول/ سبتمبر عبر منصة "ديسكورد"، التي أصبحت مركزًا لوجستيًا وتنظيميًا للحركة، قبل أن تنتشر بسرعة عبر تطبيق "تيك توك". وتفيد التقارير بأن عدد أعضائها يتراوح بين 120 و150 ألف عضو، أغلبهم من الطلبة والشباب العاملين في الأحياء الشعبية والمدن المتوسطة.
ملاعب خمس نجوم… ومستشفيات نجمة واحدة
رغم الطابع السلمي الذي اتسمت به الاحتجاجات في بداياتها، لكنها تطورت إلى مواجهات عنيفة أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى. وقد بدأت الاضطرابات في المدن الكبرى قبل أن تنتقل إلى مناطق أخرى مثل وجدة قرب الحدود الجزائرية، وأكادير التي تحولت إلى مركز رمزي للغضب الوطني إثر وفاة ثمان نساء بعد عمليات قيصرية في أحد مستشفياتها.
وما بدأ كوقفات احتجاجية واعتصامات سرعان ما تحول إلى مظاهرات واسعة النطاق، تغذيها مشاعر الغضب تجاه فشل قطاع الصحة وسوء توجيه أولويات الدولة. وقد تركزت الانتقادات على الاستثمارات الضخمة التي خصصتها الحكومة للبنية التحتية الخاصة بالفعاليات الرياضية الدولية، وعلى رأسها كأس الأمم الأفريقية 2025 وكأس العالم 2030 الذي سيستضيفه المغرب إلى جانب البرتغال وإسبانيا. كما خصصت الحكومة نحو 890 مليون يورو لتجديد ستة ملاعب، إضافةً إلى 469 مليون يورو لبناء ملعب جديد في الدار البيضاء. وعلى خلفية هذا الخلل في الإنفاق، تعكس شعارات المحتجين، مثل "الملاعب واجدة… فين هما السبيطارات؟" مطالب الجماهير بالعدالة في الخدمات العامة وإعادة توزيع الموارد.
الاحتجاجات ليست سوى رأس جبل الجليد
ليست الموجة الأخيرة من الاحتجاجات، رغم وضوحها وحدّتها، سوى جزء ظاهر من أزمة أعمق وأكثر تجذرًا؛ فجوهر الاضطرابات يكمن في الإخفاقات المزمنة في قطاع الصحة العامة، وهو المجال الذي انطلقت منه شرارة الاحتجاجات، إلى جانب الضعف البنيوي في نظام التعليم الوطني. فقطاع واسع من المواطنين يرى أن جودة التعليم متدنية بشكل كبير، سواء من حيث سهولة الوصول أو من حيث المخرجات.
كما يمر النسيج الاجتماعي المغربي بحالة ضغط متزايدة؛ حيث ارتفع معدل البطالة بين الشباب إلى مستوى قياسي بلغ 37% عام 2025، مع وجود أكثر من 1.5 مليون فرد يبحثون عن عمل دون جدوى. وهذا يعني أن أكثر من ثلث الشباب في سن العمل بلا وظيفة، وهو مؤشر بالغ الخطورة على الاستقرار الاجتماعي والاستدامة الاقتصادية. كما طالت أزمة التوظيف كلًّا من خريجي الجامعات ومن يفتقرون لمؤهلات رسمية أو مهارات تلائم سوق العمل.
وفي محاولة لمعالجة الوضع، أطلقت الحكومة عدة مبادرات عام 2024، شملت خطة بقيمة 1.3 مليار دولار لدعم التوظيف في القطاع الخاص وتعزيز التنمية الريفية. كما رفعت الحكومة الحد الأدنى للأجور بنسبة 5% ليصل إلى نحو 300 دولار شهريًا في معظم القطاعات، وأقل بقليل في القطاع الزراعي، لكن هذه الزيادة تبقى غير كافية لمجاراة تكاليف المعيشة، خاصةً في المدن لمن يدفعون إيجار منازلهم. ويظل عدم الاستقرار في سوق العمل سمةً عامة؛ إذ لا يتجاوز عدد العاملين بعقود دائمة 6.5% فقط، ما يعكس مستويات واسعة من التوظيف غير الرسمي أو الهش.
وليست هذه مشكلات ظرفية أو دورية، بل أزمة تراكمات بنيوية عميقة؛ من أبرز مؤشراتها الارتفاع المتواصل في معدلات الهجرة الداخلية والخارجية، خصوصًا بين الشباب. فإذا كان المغرب يستقبل بعض الوافدين، فإن أعداد المهاجرين المغادرين تفوق الوافدين بشكل مستمر. وقد ارتفع عدد المغاربة المقيمين بالخارج من 2.7 مليون عام 2010 إلى 3.3 مليون عام 2020، ثم إلى 3.6 مليون عام 2024.
وتظل الوجهات الرئيسية للهجرة هي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، مع زيادة ملحوظة في الهجرة نحو أمريكا الشمالية، فيما تُظهر البيانات أن المهاجرين يمتلكون في المتوسط مستويات تعليم أعلى من الذين يبقون، إذ إن 33.5% منهم حاصلون على تعليم عالٍ. وبالتالي، فإن هذا النزيف في الكفاءات، الذي يمثل ظاهرة "هجرة الأدمغة" المشهودة أيضًا في دول مغاربية أخرى مثل ليبيا، يقوّض بشكل كبير الإمكانات التنموية لاقتصادات ناشئة تعاني أصلًا من الهشاشة. وما يزيد من تعقيد الأزمة هو التباعد المتزايد بين التعليم واحتياجات سوق العمل، وهو أمر أصبح الشباب المغاربة أنفسهم أكثر وعيًا به، وهذا مجال حاسم يتطلب معالجة عاجلة، لكن يبدو أن الوقت ليس في صالح الحكومة.
السيناريوهات المتوقعة:
مرجّح جدًا: تفاقم السخط الشعبي في المغرب
تظل بطالة الشباب واحدة من أكثر التحديات الداخلية إلحاحًا، وتقدم التوقعات الاقتصادية قصيرة الأجل بعض التفاؤل الحذر، بشرط استمرار النمو؛ إذ يتوقع صندوق النقد الدولي نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 3.5 و4% خلال 2024-2025، وهو ما قد ينعكس على خلق فرص العمل إذا استمر انتعاش القطاع الزراعي. لكن دون إصلاحات هيكلية لتحفيز الاستثمار في الصناعات كثيفة العمالة وتحسين مسارات الانتقال من التعليم إلى التشغيل، فمن المرجح أن تستمر كل من البطالة والبطالة الجزئية، ما سيغذي حالة السخط الاجتماعي.
وهناك عامل إضافي يزداد تأثيره خطورةً هو التغير المناخي؛ فقد شهد المغرب بين 2018 و2023 واحدة من أشد موجات الجفاف في تاريخه، ما تسبب في تراجع كبير في إنتاج الحبوب وارتفاع أسعار المواد الأساسية. ورغم استثمارات الحكومة في البنية التحتية للمرونة المناخية، فإن نتائجها تظل طويلة المدى ولا توفر حلولًا آنية. وبالتالي، ورغم احتمال تراجع التوترات الحالية على المدى القصير، فإن المظالم ستظل كامنة وقد تعود للظهور بشكل مفاجئ عند أي صدمة اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية.
غير مرجح: اندلاع صراع أهلي واسع النطاق
سيعتمد مسار الأحداث إلى حد كبير على استجابة الحكومة في المدى القريب؛ حيث تُظهر دروس الربيع العربي أن القمع العنيف نادرًا ما يحقق الاستقرار، وأن الحركات الاحتجاجية، خصوصًا ذات القاعدة الاجتماعية الواسعة، تحتاج إلى الاعتراف والتفاعل بدل التجاهل. وينطبق ذلك بشكل خاص على الحالة المغربية؛ فما زال الملك محمد السادس يحظى بمستويات عالية من الشرعية الشعبية، وقد أعاد في خطابه السنوي في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي التأكيد على ضرورة الإصلاحات الاجتماعية، لكنه لم يشر مباشرة إلى الاحتجاجات، ما يدل على أنه يحتفظ بهامش التدخل في اللحظة التي يراها مناسبة.
وسيظل التقدم في هذا المسار مرهونًا بأداء حكومة رئيس الوزراء، عزيز أخنوش، في الأشهر القادمة؛ حيث تشمل استراتيجيته الحالية برامج مثل "أوراش" للأشغال العامة، وصندوق "فرصة" لريادة الأعمال، وخريطة طريق جديدة لتوظيف الشباب، وكلها تهدف لخلق مئات الآلاف من الوظائف بحلول 2030، وخفض البطالة إلى مستويات أحادية، وستكون فعالية هذه البرامج حاسمة في السنوات القادمة.