قراءة لمستقبل النفوذ الروسي في سوريا وأوراق القوة التي تمتلكها موسكو

الساعة : 15:27
11 ديسيمبر 2025

المصدر: إتاليان إنستيتيوت فور إنترناشيونال بوليتيكال ستاديز

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

مسار روسيا في سوريا وفرص بقائها لاعبًا سياسيًا

إن تراجع دور روسيا في سوريا خلال عام 2024، رغم تصاعده في 2017 بعد إعلان النصر العسكري، لا ينبغي اعتباره معادلة صفرية؛ فمرونة موسكو في التعامل مع الخصوم السابقين، إلى جانب مواردها من القمح إلى السلاح، تمنحها مسارات للعودة والتأثير. فقد أدّت أولوية أوكرانيا إلى إنهاك القدرات العسكرية والمالية الروسية، وهو ما انعكس على قدرتها في الدفاع عن نظام "الأسد"، وإن كان الإحباط الروسي منه قد بدأ منذ ما قبل حرب أوكرانيا؛ إذ بدأت موسكو منذ 2019 تشكك في قدرته على البقاء.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، ومع تصاعد هجمات المعارضة ضد النظام، حاولت روسيا إظهار دعمها الأولي عبر تنفيذ ضربات جوية في محيط حلب، لكنها لم تتمكن من وقف هجوم "هيئة تحرير الشام" أو منع انهيار النظام. ومع وصول القيادة الجديدة للحكم، سارعت موسكو لفتح قنوات تواصل معها حفاظًا على قواعدها العسكرية. وخلال زيارة وفد روسي إلى دمشق في كانون الثاني/ يناير 2025، أوضح القادة الجدد أن إعادة بناء الثقة تتطلب تعويضات وجهودًا في إعادة الإعمار وتسهيل تسليم "الأسد" واستعادة الأصول المنهوبة. ورغم رفض موسكو تسليم "الأسد"، فقد أبقت على التواصل مع حكومة "الشرع" الانتقالية؛ ففي شباط/ فبراير 2025، جرى أول اتصال هاتفي بين "بوتين" و"الشرع"، أكد خلاله الأول على دعم موسكو "لوحدة وسيادة وسلامة أراضي سوريا".

ورغم أن "الشرع" لم يقطع العلاقات مع موسكو، لكنه عمل على تقليص نفوذها تدريجيًا؛ وهو ما تجلى في قرار حكومته إنهاء عقد شركة "ستروي ترانس جاس" الروسية لإدارة ميناء طرطوس. ومع اتساع الاعتراف الدولي والإقليمي بسوريا الجديدة وتراجع العقوبات الغربية، مالت دمشق نحو دعم خليجي وتركي، وهو ما جعل روسيا، الخاضعة للعقوبات، أقل قدرة على المنافسة، لكن موسكو احتفظت بأصول ذات قيمة، مثل حضور عسكري محدود وشبكات محلية ودور الوسيط بين الأطراف المتنازعة.

كما أظهرت التطورات جنوب سوريا، خصوصًا مع التوغل "الإسرائيلي" وما تلاه من توترات طائفية في الساحل والسويداء، أهمية روسيا كوسيط؛ فقد تكرر التواصل بين "بوتين" و"نتنياهو" في تموز/ يوليو وآب/ أغسطس 2025، حيث أكدت موسكو ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها، كما استمرت الاتصالات لاحقًا، بما في ذلك اتصال روسي مبادر في تشرين الثاني/ نوفمبر لبحث الاستقرار في سوريا.

وفي نهاية تموز/ يوليو 2025، زار وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، ووزير الخارجية، أسعد الشيباني، موسكو لمراجعة الاتفاقيات القائمة، وأكد الجانب السوري على أهمية بناء تعاون قائم على الاحترام المتبادل. ثم عاد ملف تسليم "الأسد" إلى الطاولة خلال زيارة "الشرع" إلى موسكو في تشرين الأول/ أكتوبر 2025، وهي زيارة كشفت رغبة الطرفين في صياغة علاقة جديدة تُراعي حاجاتهما المتبادلة. وتناول الجانبان مستقبل القواعد الروسية، والتعاون في الطاقة، ومشاريع نفطية جديدة، وإعادة تسليح الجيش السوري، مقابل طلبات سورية بعدم دعم أي قوى موالية لـ"الأسد". وتشير هذه التطورات إلى أن دور روسيا في سوريا سيكون أكثر محدودية، لكنه لن يختفي؛ فما زالت موسكو تملك أوراقًا قوية، مثل القدرة على تسليح النظام الجديد والوساطة بين اللاعبين المتنافسين، وهو ما يضمن استمرار حضورها في المدى القريب.

عودة روسيا لجنوب سوريا ودورها كوسيط بين دمشق و"إسرائيل"

تستعد روسيا للعودة إلى جنوب سوريا وفق تقارير عدة؛ ففي 2018 اتفقت موسكو وتل أبيب على إعادة انتشار قوات النظام قرب الجولان، مقابل إبعاد القوات الإيرانية و"حزب الله"، وكان ذلك أحد أهم أدوار روسيا. واليوم تبدو موسكو مؤهلة للعب الدور ذاته لصالح كلٍّ من القيادة السورية الجديدة و"إسرائيل"، وذلك عبر منع أي طرف من الهيمنة على المنطقة الحدودية، فيما تشير مصادر إعلامية روسية إلى أن الحكومة الانتقالية السورية ترغب في عودة الشرطة العسكرية الروسية إلى الجنوب.

وبالنسبة لدمشق، يعتبر الدور الروسي وسيلة لاحتواء التوغّل "الإسرائيلي"، أما تل أبيب فترى في الحضور الروسي كابحًا للتوسع التركي في سوريا، وقد حثّت واشنطن، وفق تقرير لرويترز، على إبقاء سوريا ضعيفة ومجزأة، بما في ذلك بقاء القواعد الروسية لموازنة النفوذ التركي. فقد استفادت روسيا على مدار عقد كامل من إدارة التوازنات المعقدة بين النظام السوري وإيران وتركيا و"إسرائيل". ورغم الخسارة الاستراتيجية في سوريا وانشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا، فإن قدرتها على التنسيق مع "إسرائيل" عبر خط منع الاشتباك الجوي ما زالت قائمة.

كما إن موسكو تمتلك شبكة نفوذ واسعة داخل المؤسسة العسكرية السورية، تكوّنت من ضباط موالين لها وميليشيات مؤيدة لـ"الأسد" استخدمتها لاحقًا في أوكرانيا. وفي 2025 اتُّهمت روسيا بتسليح ميليشيات موالية لـ"الأسد" لزعزعة الساحل السوري، ومنها مجموعات مرتبطة بقائد "صقور الصحراء" السابق، محمد جابر. وبناءً على ذلك، تستطيع روسيا إمّا استخدام هذه الشبكات لزعزعة الاستقرار أو توظيفها لتعزيز سلطة النظام الجديد.

إعادة التموضع العسكري الروسي في سوريا

رغم انخفاض حجم قواتها، ما زالت روسيا تحتفظ بقدرة على إظهار القوة من خلال قواعدها في طرطوس وحميميم، وتتحرك بصمت لتثبيت حضورها في الشمال الشرقي. فبعد سقوط نظام "الأسد"، عزّزت موسكو تمركزها في مطار القامشلي بأنظمة دفاع جوي وحرب إلكترونية، تحضيرًا لاحتمال انسحاب أمريكي وتوفير ورقة نفوذ سياسية. كما تشير تقارير حديثة إلى تعزيزات روسية إضافية في القامشلي تشمل تحسين البنية التحتية وتوسيع مساكن القوات، مع تسيير دوريات مشتركة مع تركيا والحكومة السورية الجديدة، ما يُظهر رغبة موسكو في إيجاد بديل محتمل لقاعدة حميميم.

ويرجّح محللون أن روسيا تنسّق مع "قسد" (قوات سوريا الديمقراطية)، ضمن تفاهمات سرية لدعم كيان اتحادي كردي شمال شرق سوريا، ولتقليص الاعتماد على واشنطن، خصوصًا بعد اتهام مجموعات موالية لـ"الشرع" بمهاجمة قاعدة حميميم في آذار/ مارس 2025. وتتزامن هذه التطورات مع مؤشرات على تنسيق غير مباشر بين "قسد" وبقايا قوات النظام السابق؛ حيث تم دمج 4500 عنصر منهم ضمن صفوف "قسد" في الرقة والحسكة.

المقايضة بالسلاح مقابل النفوذ

إلى جانب دورها كوسيط، ما زالت روسيا قادرة على تقديم السلاح لدمشق، وهو مجال تمتعت فيه بعلاقات راسخة منذ الحقبة السوفييتية. وفي الحرب السورية، تحوّلت البلاد إلى ميدان اختبار للأسلحة الروسية المتطورة، من الطائرات والصواريخ إلى الروبوتات القتالية والطائرات المسيّرة. ومع وصول "الشرع" إلى السلطة، كانت القدرات العسكرية السورية منهارة بفعل الضربات "الإسرائيلية"، ولهذا تحتاج دمشق إلى إعادة بناء واسعة.

من جهتها، سارعت تركيا في آب/ أغسطس 2025 إلى تقديم اتفاق تعاون عسكري، يشمل تزويد سوريا بأنظمة سلاح وتدريب، لكن اعتماد النظام الجديد على أنقرة يثير حساسية "إسرائيل"، لذلك قد تنظر دمشق إلى روسيا كقناة بديلة لإعادة تسليح الجيش بطريقة تخفف هواجس تل أبيب، حيث تمتلك روسيا ميزات مهمة، منها:

·      القدرة على التحرك خارج النظام المالي الغربي

·      استخدام قنوات شبه عسكرية وخاصة

·      إمكان تقديم تسهيلات بالدفع أو التمويل

·      خبرتها في دعم حروب مكافحة التمرد (كما حدث في ميانمار)

الدبلوماسية الاقتصادية و"دبلوماسية القمح" والمشهد المستقبلي

رغم الطابع العسكري للعلاقة الروسية–السورية، فقد لعبت موسكو دورًا اقتصاديًا مؤثرًا عبر إمدادات القمح؛ فبعد أن كانت سوريا حتى 2010 تنتج أربعة ملايين طن سنويًا، أصبحت تعتمد على الاستيراد الروسي بسبب الحرب والجفاف، وبلغت وارداتها 1.4 مليون طن عام 2023. لكن بعد سقوط النظام، أوقفت روسيا الصادرات مؤقتًا بسبب "ضبابية المشهد" وتأخر الدفعات، قبل أن ترسل دفعة رمزية في نيسان/ أبريل 2025 بلغت 6600 طن. ومع تفاقم الجفاف، الذي يعتبر الأسوأ منذ 36 عامًا، تستعد دمشق لشراء 200 ألف طن جديدة، ما يجعل القمح ورقة ضغط روسية قابلة للاستخدام. من جهة أخرى، تستمر الاتصالات السياسية عالية المستوى، ومن الأمثلة اللافتة تعاقد دمشق مع شركة "غوزناك" الروسية لطباعة عملة سورية جديدة بعد حذف صفرين، في محاولة لاستعادة الثقة في العملة، وتم توقيع هذا الاتفاق خلال زيارة وفد سوري رفيع إلى موسكو في تموز/ يوليو 2025.

فكل هذه المؤشرات تبيّن أن النظام الجديد، رغم سعيه لتنويع الشركاء، ليس بصدد إقصاء روسيا، كما إن موسكو ليست مستعدة للتخلي عن استثمارها الطويل في سوريا. ومع ذلك، فإن قدرة روسيا على دعم النظام الجديد محدودة مقارنة بعام 2015، بسبب الضغط العسكري والاقتصادي للحرب في أوكرانيا. وإذا نجحت موسكو في إنهاء حرب أوكرانيا بشروط لصالحها، فمن المرجح أن تسعى لتوسيع دورها مجددًا في المشرق، على غرار تدخلها في سوريا عام 2015 بعد ضمّ القرم في 2014. فبالنسبة لروسيا، يعتبر الحفاظ على وجودها الممتد 54 عامًا على البحر المتوسط عبر سوريا هدفًا استراتيجيًا دائمًا.