المصدر: فورين أفّيرز
ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات
صلب قوة "محور المقاومة"
إن الاعتقاد بتراجع نفوذ إيران بعد الضربات "الإسرائيلية" والأمريكية وتفكك ميليشياتها الحليفة مبالغ فيه، لأن قوة "محور المقاومة" كانت تعتمد أساسًا على شبكات "الهوية الشيعية" العميقة التي بنتها طهران منذ 2003، أكثر من اعتمادها على القوة العسكرية المباشرة. ورغم تآكل البنية القتالية للمحور، تبقى الهوية السياسية والدينية الشيعية عاملًا محوريًا يمكن أن يعيد إنتاج نفوذ إيران. كما إن تهميش الشيعة في لبنان وسوريا والعراق أو محاولة نزع سلاح "حزب الله" دون معالجة جذور "المظلومية" سيقود إلى مقاومة جديدة ويغذي عدم الاستقرار، ولن ينجح أي نظام إقليمي جديد دون دمج المجتمعات الشيعية وضمان دورها السياسي، وإلا ستظل إيران غير قابلة للاحتواء.
لقد تعمّقت الروابط الشيعية العابرة للحدود منذ الحرب الإيرانية-العراقية، ثم توسّعت بقوة بعد غزو العراق عام 2003، مع تنامي الهوية الدينية وتدفّق المقاتلين والطلاب إلى مراكز النفوذ الشيعي في إيران والعراق وسوريا. وقد استغلت إيران هذه الشبكات لحشد ميليشيات شيعية في العراق وسوريا واليمن، وتعزيز نفوذها خلال حروب ما بعد 2011، خصوصًا ضد الفصائل السنية المسلحة وتنظيم "داعش".
لكن الهزيمة الكبيرة لتنظيم "داعش" عام 2019 مهّدت لانحسار المحور؛ حيث تراجعت بشكل كبير عملية تعبئة الشباب الشيعة للانخراط في ميليشيات مكافحة التنظيم، وأصبح كبار رجال الدين الشيعة في المنطقة أكثر ترددًا في الربط بين الممارسات الدينية والمشاركة في الجهود العسكرية الإيرانية. وقد بسطت الميليشيات الشيعية سيطرتها على مساحات واسعة من العراق واكتسبت قوة اقتصادية ملموسة مستقلة عن الحكومة المركزية. لكن مصداقيتها باعتبارها "منقذة للشيعة" وضامنة للاستقرار بدأت تتآكل مع تورطها في قمع الاحتجاجات المناهضة للفساد. وفي عام 2020، شكّل مقتل "سليماني" و"المهندس" بغارة أمريكية ضربة أخرى للمحور؛ حيث انخفض عدد مقاعد الأحزاب العراقية المرتبطة بإيران وميليشياتها في البرلمان إلى 17 مقعدًا فقط عام 2021، بدلًا من 48 مقعدًا عام 2018.
التحوّل والتراجع بعد 7 أكتوبر
بدا هجوم حماس على "إسرائيل" في السابع من أكتوبر 2023 وكأنه استعراض لقوة المحور، لكنه في الواقع كشف تراجعه وسرَّعه؛ فقد حاولت القوى الشيعية في المنطقة التعبئة لدعم حماس، لكن في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، دمّرت "إسرائيل" كثيرًا من قدرات "حزب الله" واغتالت عشرات من قادته وزعيمه، حسن نصر الله، ثم انهار نظام "الأسد" في سوريا أمام تقدم القوات السنية المدعومة من تركيا.
وعندما شنّت "إسرائيل" والولايات المتحدة هجومهما العسكري على إيران في حزيران/ يونيو، لم يهبّ وكلاء طهران الشيعة للدفاع عنها، واضطرت القيادة الإيرانية إلى التركيز داخليًا؛ إذ لم تجد فائدة في إطلاق نداءات عابرة للحدود، بل دعت الشعب الإيراني للدفاع عن الوطن. وبالمثل، تخلّى الحلفاء الشيعة في العراق ولبنان عن الخطاب الطائفي العابر للحدود، وعادوا بشكل أكبر إلى نزعاتهم الوطنية.
ويبدو الآن أن إيران تتبع خطى حلفائها الإقليميين بدلًا من توجيههم؛ فما كان يومًا نظامًا محوريًا تتحكم فيه طهران أصبح أقرب إلى اتحاد مجموعات متقاربة فكريًا تتشارك الأهداف، لكنها تعمل باستقلالية. ففي العراق، تُشجّع إيران وكلاءها على استبدال الزي العسكري بالبدلات والانضمام للعملية السياسية، وفي لبنان قد يقبل "حزب الله" نزع سلاحه تحت ضغط أمريكي و"إسرائيلي" لتجنب الحرب مع "إسرائيل" أو حرب أهلية مع بقية اللبنانيين. كما إن التحولات داخل إيران نفسها، مثل تصاعد النزعة القومية وتخفيف القيود الدينية، أصبحت تضعف مطالبة إيران بقيادة روحية عابرة للحدود.
من ناحية أخرى، فإن القادة الذين أشرفوا على صعود الشيعة بدؤوا يغادرون المسرح؛ فالقادة ورجال الدين الذين شاركوا في ثورة 1979 ونجوا من الاغتيال صاروا متقدمين في السن؛ فالمرشد الأعلى، علي خامنئي، يبلغ 86 عامًا، و"السيستاني" يبلغ 95 عامًا ويعاني من تدهور صحته. وطالما شكّلت كل من النجف وقمّ مركزين متنافسين للتعليم الديني الشيعي، لكن خلال العقود التي ركزت فيها إيران على بناء قوتها العسكرية والسياسية، أصبحت النجف، أكثر من قم أو طهران، الممثل الحقيقي للسلطة الدينية الشيعية. لذلك فإن خليفة "السيستاني" في العراق، وليس خليفة "خامنئي" في إيران، سيكون المرجعية التي توجه الشيعة في شؤون الدين.
تحوّل إلى صراعات داخلية على النفوذ
من جهتها، ترغب "إسرائيل" في تفكيك شبكة إيران الإقليمية عبر تأجيج مزيد من الانقسامات بين الشيعة، وذلك عبر تشكيل حكومات ضعيفة ومطيعة تضطهد أو تهدد الأقليات الشيعية في لبنان وسوريا، وهذا ما سيوجه طاقة الشيعة نحو صراعات داخلية على النفوذ بدلًا من مواجهة "إسرائيل". وفي ظل احتلالها لجنوب لبنان، تهاجم "إسرائيل" بانتظام أهدافًا شيعية، ما يؤدي لمقتل عشرات المدنيين ومقاتلي "حزب الله"، كما إن جهودها لمنع دمشق من استعادة السيطرة على سوريا تدفع أقليات البلاد نحو الصدام مع الحكومة الجديدة.
رغم ذلك، فإن تراجع القوة العسكرية للشيعة في الشرق الأوسط لا يعني ضعف الهوية الدينية أو الشعور بالانتماء للطائفة العابرة للحدود؛ فعدد الحجاج الشيعة إلى المدن المقدسة في العراق يزداد سنويًا رغم الخسائر السياسية والعسكرية. ففي آب/ أغسطس الماضي حضر إحياء ذكرى استشهاد الإمام الشيعي الثالث نحو 21 مليون زائر إلى مدينة كربلاء. ومع تعثّر إيران وتزايد الضغوط على الميليشيات الشيعية لنزع سلاحها، يخشى الشيعة من مستقبل يتسم بالتهميش والعنف؛ فسوريا، التي كانت الركيزة الأساسية للمحور، أصبحت اليوم تحت حكم مقاتلي الجماعات السنية المتشددة الذين قاتلوا "حزب الله" خلال الحرب الأهلية السورية، بينما يدعم النظام الجديد كلٌّ من تركيا والسعودية، ويسعى لاتفاق أمني مع "إسرائيل". وفي لبنان والعراق يخشى الشيعة أن يدعم النظام السوري الجديد السُّنة في بلدانهم، بما يغيّر موازين القوى ضدهم.
وفي ظل هذا الشعور بالخطر والحصار، قد يتجه الشيعة بقوة أكبر نحو هوية جماعية طائفية، وقد بدأت بالفعل أقليات الدروز والعلويين في سوريا مقاومة سلطة دمشق. ولمنع نشوب حروب أهلية جديدة أو انهيار الدول أو عودة الجماعات المتطرفة، وهي الظروف نفسها التي سمحت لإيران ببناء محور المقاومة، يجب أن تركز مشاريع بناء الدولة في لبنان وسوريا على ضمان المساواة بين جميع المكوّنات. فإذا استبعدت بيروت ودمشق الأقليات، سيلجأ الشيعة المهمشون مجددًا إلى إيران، وإذا اندلع الصراع ستتبع ذلك المساعدات الإيرانية في التدريب والتمويل والسلاح.
وفي العراق، حيث يستمر المسار الدقيق لتشكيل الحكومة والمفاوضات داخل البيت الشيعي، يجب دعم القيادة الشيعية المعتدلة. ويتطلب ذلك إصلاحات دستورية لتفكيك الشبكات التي يديرها المقاتلون السابقون، ممن تحولوا إلى سياسيين ويحصلون على مقاعد في البرلمان والمجالس المحلية. وقد فرضت السياسة الأمريكية مؤخرًا ضغوطًا كبيرة على بغداد للابتعاد عن إيران، لكن مطالبة العراق بالاختيار بين واشنطن وطهران قد يضعف القيادة الشيعية المعتدلة ويقوّض محاولاتها لتحجيم نفوذ الميليشيات وحماية العراق من الصراع الإيراني–"الإسرائيلي".
كيف يجب أن تتعامل الدول الإقليمية مع واقع الشيعة الجديد؟
أما على الصعيد الإقليمي، فيعتمد تجنب العودة للعنف على ضمان شعور الشيعة بأن لهم مستقبلًا سياسيًا في دولهم؛ مستقبلًا وطنيًا يحلّ محل الالتزام الأيديولوجي العابر للحدود، وأن تتاح لهم فرص اقتصادية خارج دائرة الميليشيات. ففي لبنان مثلًا، لن يكون نزع سلاح "حزب الله" وتفكيكه كافيًا لتحقيق الاستقرار، لأن الحزب شكّل لعقود دولة داخل الدولة، ووفّر الأمن والوظائف والخدمات الاجتماعية للشيعة، ومع تضاؤل دوره يجب توفير طرق أخرى لدمج الشيعة في السياسة والاقتصاد الوطني.
وبالتالي، ينبغي على الحكومات اللبنانية والسورية والعراقية، بدعم من الولايات المتحدة ودول الجوار العربية، توفير وظائف طبقية وسطى للشيعة في القطاع الخاص، لتقليل اعتمادهم على الوظائف في القطاع العام الذي تهيمن عليه الميليشيات. فهناك طبقات وسطى شيعية في لبنان والعراق مستعدة للاستفادة من الفرص الاقتصادية، التي تتصورها الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون للمنطقة، بعد انتهاء العمليات العسكرية "الإسرائيلية"، ودون وجود فرص اقتصادية قد يتجه الشباب مجددًا نحو العمل المسلح.
ومع قيام السعودية ودول الخليج الأخرى باستثمارات لتعزيز حكومات مركزية قوية في لبنان وسوريا قادرة على مقاومة النفوذ الإيراني، يجب ألا تعطل هذه الجهود مسار التطبيع مع إيران؛ فقد ساعد هذا التطبيع في الحفاظ على استقرار الخليج في الوقت الذي اشتعلت فيه المنطقة. ولضمان استمرار هذا الاستقرار، ينبغي للدول العربية مزاوجة خطط بناء الدولة برؤية اقتصادية، تمنح المناطق الشيعية في لبنان والعراق مستقبلًا أيضًا. وعلى السعودية والإمارات ضمان استمرار وقف إطلاق النار مع الحوثيين ودفع العملية الدبلوماسية لإنهاء الحرب في اليمن نهائيًا. ولمنع عودة إيران إلى دور المخرّب الإقليمي، ينبغي التخلي عن فكرة أن الشيعة في المنطقة مجرد تابعين لطهران، والتعامل معهم كمواطنين متساوين.
توصيات للإدارة الأمريكية بشأن التعامل مع إيران
إذا أرادت الولايات المتحدة إنهاء الصراعات في الشرق الأوسط ورؤية عراق مزدهر مستقل عن السيطرة الإيرانية، فعليها أيضًا أن تدمج الجماعات الشيعية في النظامين الوطني والإقليمي اللذين تتصورهما. ففي لبنان، يعني ذلك ربط عملية نزع سلاح "حزب الله" بخطة واضحة لإعادة إعمار المناطق الشيعية، ومنح الشيعة دورًا سياسيًا حقيقيًا. كما يجب على واشنطن بذل كل ما في وسعها للحفاظ على وقف إطلاق النار بين الحزب و"إسرائيل"؛ لأن شيعة لبنان سيقاومون أي غزو أو احتلال "إسرائيلي"، كما فعلوا بين 1982 و2000، ما قد يضخ حياة جديدة في ما تبقى من المحور.
كما يجب على واشنطن دعم جهود الدول العربية لتطبيع العلاقات مع إيران، وهو ما يستدعي التحدث مع طهران مباشرة؛ فخلافًا لما يبدو أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يفترضه، لا تشعر إيران بالهزيمة بعد حرب الـ12 يومًا؛ فهي تعتقد أن الصواريخ التي أطلقتها على "إسرائيل" ألحقت أضرارًا كافية لردع واشنطن وتل أبيب عن التفكير في جولة قتال جديدة، كما إن الضربات لم تدمّر بالكامل قدرات إيران النووية أو طموحاتها. إن استقرار المنطقة يعتمد على انخراط إيران دبلوماسيًا واقتصاديًا مع العالم العربي، لكن الدول العربية تتردد في منح دور أكبر لإيران إذا أصبحت دولة نووية. وأي استعادة للعلاقات الدبلوماسية أو توسع في العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج مرهون بتقدم طهران في المحادثات النووية، وبالتالي سيتعيّن على واشنطن عاجلًا أم آجلًا إعادة تركيز جهودها على التفاوض بشأن اتفاق نووي جديد.
الخلاصة
إن إبقاء المشرق في حالة تشرذم لن يجلب الاستقرار؛ فالمجتمعات الشيعية التي كانت الركيزة الشعبية لمحور المقاومة يجب دمجها في الحياة السياسية والاجتماعية الإقليمية. ويجب أن تدرك إيران أنها تستطيع جني فوائد أكبر من الانخراط الدبلوماسي والاقتصادي، مقابل استئناف أنشطتها العسكرية المزعزعة للاستقرار. لقد أُضعفت الجماعات الشيعية، لكن محاولة إخضاعها عبر استبعادها من السياسة لن يجعلها إلا صيدًا سهلًا لأي محاولة مستقبلية من إيران لإعادة بناء شبكة وكلائها، وهو ما سيهدد أي رؤية أوسع للسلام الإقليمي.