استراتيجية روسيا الجديدة في الشرق الأوسط.. مرونة مع كل الأطراف واستفادة من انقسامات المنطقة

الساعة : 09:21
20 ديسيمبر 2025
استراتيجية روسيا الجديدة في الشرق الأوسط.. مرونة مع كل الأطراف واستفادة من انقسامات المنطقة

المصدر: رويال يونايتد سيرڤيس إنستيتيوت

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

يسود افتراض واسع الانتشار لكنه مضلل؛ مفاده أن ضعف موسكو الحالي يعني انسحابها الحتمي من الشرق الأوسط، بينما يُظهر الواقع أن روسيا عززت ترسّخها في المنطقة بدلًا من التراجع. صحيح أن الموارد العسكرية والاقتصادية الروسية أصبحت مُنهكة بفعل الحرب في أوكرانيا، وأن معقلها السابق في سوريا قد سقط، لكن الكرملين، حتى في ظل هذه الظروف، لم يختر الانسحاب من الشرق الأوسط، بل عمد إلى التكيّف مع الواقع الجديد. كما تواصل روسيا استغلال الفرص التي تتيحها المنطقة للتخفيف من وطأة العقوبات، وتعويض خسائرها الاقتصادية والسياسية الناجمة عن صدامها العالمي مع الغرب، وأحيانًا لخلق تحديات مباشرة للولايات المتحدة وأوروبا. ومن ثم، فإن المحللين الذين يعتبرون روسيا "منتهية" في الشرق الأوسط يخاطرون بتجاهل فاعلٍ أضعف، لكنه لا يزال قادرًا ومصممًا على تعقيد الأهداف الغربية.

استراتيجية مرنة بعد 2022:

منذ عام 2022، انصبّ تركيز المحللين بصورة مفرطة على التطورات التي بدت غير مواتية للكرملين، سواء النكسات الاستراتيجية الكبرى مثل سقوط نظام "الأسد" في سوريا عام 2024، أو الضربات الرمزية مثل استبعاد موسكو من قمة شرم الشيخ للسلام في تشرين الأول/ أكتوبر 2025، غير أن أحداثًا أكثر تأثيرًا على موقع روسيا الفعلي غالبًا ما تمر دون اهتمام يُذكر.

ومن الأمثلة على ذلك: منتدى الأعمال والاستثمار السعودي–الروسي الذي عُقد مطلع كانون الأول/ ديسمبر، وأسفر عن اتفاق شامل للإعفاء المتبادل من تأشيرات الدخول، وهو اتفاق نادرًا ما تبرمه الرياض مع دول أخرى. وقد عكس المنتدى استمرار الاعتراف رفيع المستوى بروسيا في السعودية، وأكد أن شراكاتها الاقتصادية في الخليج ما زالت قائمة. وهذا التناقض بين سرديات التراجع العالمي لروسيا والنتائج العملية التي تواصل تحقيقها يطرح سؤالًا أكبر: هل تحتاج موسكو حقًا إلى أن تتصدّر المشهد في كل حدث إقليمي كي تحافظ على نفوذها؟ أم إنها تستفيد من العمل كلاعب من الدرجة الثانية ظاهريًا، لكنه يحقق مكاسب استراتيجية ملموسة؟

الإجابة تكمن في نهج روسي قديم، وهو أن الضعف لا يعني العجز؛ فبعد 2022، وتحت ضغط العقوبات والاستنزاف العسكري، أصبحت الاستراتيجية الروسية أقل كلفة لكنها أكثر مرونة؛ حيث تميل موسكو إلى تجنب المبادرات عالية المخاطر ما لم تكن ضرورية. ففي السابق، شكّلت مواقفها الصاخبة بشأن غزة وسيلة منخفضة الكلفة لإظهار حضورها الدولي، أما المشاركة الفعلية في مبادرات السلام الحالية، فكانت ستتطلب التزامات سياسية وموارد بنتائج غير مضمونة، ما يجعل غيابها عن قمة شرم الشيخ أقرب إلى "نعمة مقنّعة" للكرملين.

"افعل المزيد بموارد أقل".. دليل العمل الروسي الجديد:

رفعت موسكو مبدأ "تحقيق المزيد بموارد أقل" إلى مستوى جديد، معتمدة على الدبلوماسية والإكراه الانتقائي والشراكات الموجّهة، بدلًا من الانتشار العسكري الواسع، بينما تُضخّم حضورها الدبلوماسي لإعطاء انطباع بالضرورة والفاعلية، حتى حين يكون وجودها المادي محدودًا.

ومن باب البراغماتية الخالصة، تحافظ موسكو على قنوات مفتوحة مع جميع الأطراف؛ إيران و"إسرائيل"، وتركيا ودول الخليج ومصر، إضافةً إلى مختلف الفصائل في سوريا وليبيا. وهدفها ليس حل النزاعات، بل ضمان الاحتفاظ بدور وصوت مؤثر، وحتى دون وجود قاعدة عمليات لها في سوريا، تظل روسيا قادرة على أداء دور الوسيط أو "المُعطِّل" في الأزمات الإقليمية. فقد فضّل مسؤولون "إسرائيليون"، على ما يبدو، استمرار الوجود الروسي في سوريا ما بعد "الأسد"، خشية أن يفسح الانسحاب الكامل المجال أمام أطراف أقل قابلية للتنبؤ، مثل تركيا. وعندما تصاعد التوتر بين إيران و"إسرائيل" بعد سقوط "الأسد"، تجنّبت موسكو عرقلة الضربات "الإسرائيلية"، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الحوار مع طهران.

ورغم استياء إيران من امتناع روسيا عن دعمها بقوة خلال مواجهة حزيران/ يونيو مع "إسرائيل"، فإن طهران ستضطر في نهاية المطاف للقبول بأن موسكو تظل شريكًا لا غنى عنه طالما استمر الصدام مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما إن الغرب لن يتجاهل تزويد إيران لروسيا بطائرات "شاهد" المسيّرة لدعم حربها في أوكرانيا، ما يجعل روسيا، إلى جانب الصين، من بين الشركاء الاستراتيجيين القلائل المتاحين لطهران.

على جانب آخر، تتجنب روسيا كذلك الارتباط بتحالفات جامدة؛ فرغم علاقاتها الوثيقة بعائلة "حفتر" في ليبيا، فإنها تستكشف في الوقت نفسه إحياء مشاريع اقتصادية تعود إلى عهد "القذافي" مع خصومهم في حكومة طرابلس. وقد ساعد هذا النهج التحوّطي في ضمان ألا يؤدي سقوط نظام "الأسد"، رغم كونه ضربة استراتيجية ومعنوية، إلى إخراج روسيا من سوريا.

إسقاط القوة دون انتشار عسكري واسع:

حتى مع تراجع حضورها، تحتفظ روسيا بقدرتها على إسقاط القوة؛ فمن خلال موطئ قدم في ليبيا وسوريا، تستطيع نقل الأفراد والأسلحة إلى نزاعات مختلفة في أفريقيا والشرق الأوسط، متجاوزةً الحظر الغربي عند الحاجة. وتتيح هذه الأدوات غير المباشرة لموسكو دعم أنظمة أو جماعات تعارضها الدول الغربية دون تحمّل أعباء تدخل عسكري كبير.

ولا تقل الأدوات الاقتصادية أهمية؛ إذ يتيح التنسيق مع "أوبك+"، لا سيما مع السعودية، لروسيا ضبط إنتاج النفط وأسعاره، والتخفيف من آثار العقوبات الغربية. كما أعادت موسكو توجيه تدفق تجارتها عبر وسطاء في الخليج، مستخدمةً المنطقة مركز عبور وسوقًا استهلاكية لمنتجاتها النفطية والغذائية والبتروكيميائية والتكنولوجية، فضلًا عن جذب رؤوس الأموال. وتستثمر الإمارات والسعودية بدورهما في الاقتصاد الروسي، بينما تعمّق روسيا اندماجها الإقليمي عبر دورها في أمن الغذاء والطاقة والمشاريع النووية، ما يعقّد محاولات الغرب لعزلها.

الاستفادة من شرق أوسط منقسم:

تعزز الانقسامات الإقليمية والدولية قدرة روسيا على "تجاوز وزنها"؛ فهناك تباينات كثيرة بين كل من الولايات المتحدة وأوروبا حول سياسات الشرق الأوسط، في حين تتبنى دول المنطقة استراتيجيات متعددة المسارات بدل الاصطفاف الحصري مع الغرب. وتزدهر موسكو في هذه الفجوات؛ فقد حافظت دول الخليج على علاقات قوية مع روسيا منذ 2022، ولم تنضم أي منها إلى العقوبات الغربية، بل زادت تعاونها الاقتصادي. ففي آب/ أغسطس الماضي، أعلن رئيس الإمارات، محمد بن زايد، السعي لمضاعفة حجم التبادل التجاري مع روسيا خلال خمس سنوات، بعدما كاد هذا التبادل أن يتضاعف ثلاث مرات بين 2019 و2024.

بدورها، تُجسّد تركيا، العضو في حلف "الناتو"، بُعدًا آخر من هذا التشرذم؛ حيث تعارض موسكو في بعض الساحات، لكنها تظل معتمدة على الطاقة والسياحة الروسيتين، فقد شكّل النفط الروسي نحو نصف واردات تركيا النفطية بين كانون اثاني/ يناير وتشرين الأول/ أكتوبر 2025. ورغم مساعي أنقرة لتقليص اعتمادها على الهيدروكربونات الروسية، فإن هذا السلوك يُضعف التماسك الغربي ويعزز موقع روسيا في شرق أوسط متعدد الأقطاب.

لا تستهينوا بروسيا الضعيفة:

إن الدرس واضح لصنّاع القرار الغربيين هو: ضعف روسيا لا ينبغي أن يولّد شعورًا بالاطمئنان؛ فروسيا المنهكة ما زالت قادرة على الإرباك والتعطيل الاستراتيجي، وبعقلية البقاء تسعى لاستغلال أي ثغرة دبلوماسية أو اقتصادية أو جيوسياسية لتحقيق طموحاتها الأوسع. وستزوّد موسكو من ترفض واشنطن أو بروكسل تسليحهم، وتعرقل المبادرات الغربية في المحافل متعددة الأطراف، وتستخدم ملفات النفط واللاجئين والحبوب لانتزاع تنازلات.

وفي الشرق الأوسط، قد لا تكون روسيا القوة المركزية التي سعت يومًا إلى أن تكونها، لكنها بعيدة كل البعد عن العجز.؛ فمرونتها وانتهازيتها وقدرتها على استغلال الانقسامات تضمن استمرار تحدّيها للغرب بطرق يصعب احتواؤها. وما لم تحافظ الولايات المتحدة وأوروبا على انخراطهما ووحدتهما، سيواصل الكرملين تحويل ضعفه إلى نقطة ضعف غربية.