استراتيجية "إسرائيل" المستقبلية للدفاع عن نفسها وإضعاف أعدائها

الساعة : 15:47
2 سبتمبر 2025

المصدر: موقع كومينتري

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

لا يمكن إنكار الفشل الاستخباراتي "الإسرائيلي" الذي سبق هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، ومع ذلك فإن الاستراتيجية العسكرية "الإسرائيلية" التي ساعدت في التسبب في تلك الكارثة كانت أيضًا مفتاحًا لبعض الانتصارات، التي حققتها "إسرائيل" في العامين الماضيين ضد "حزب الله" وإيران، وتُعرف هذه الاستراتيجية باسم "الحملة بين الحروب". فخلال عقد من الزمان شارك فيه الجيش "الإسرائيلي" بشكل متقطع في صراعات مفتوحة عبر الحدود، صقل الجيش قدرته على الجمع بين القوة الجوية الدقيقة والاستخبارات الدقيقة والسرعة المذهلة، وهكذا اكتسبت "إسرائيل" اليد العليا في الحرب التي كانت تخوضها على سبع جبهات في الشرق الأوسط.

ومن المرجح الآن أن تساعد هذه القدرات نفسها في تثبيت مكاسب "إسرائيل" للمضي قدمًا؛ حيث صُممت "الحملة بين الحروب" لدفع الحرب إلى المستقبل. فبحلول العقد الثاني من القرن الـ21، حاصرت إيران "إسرائيل" بوكلاء مدجّجين بالصواريخ والطائرات المسيّرة وغيرها من الأسلحة. وكان "حزب الله" العضو الأقوى بلا منازع في ما يُسمّى محور المقاومة، لامتلاكه ترسانة كبيرة من الذخائر دقيقة التوجيه. وبشكل منفصل، أضافت حركتا حماس والجهاد الإسلامي والميليشيات الشيعية في سوريا والعراق والحوثيون في اليمن إلى هذا التهديد، وبالتنسيق مع إيران، التي واصلت توسيع ترسانتها من الصواريخ الباليستية، شكّل هؤلاء الوكلاء تهديدًا وجوديًا للدولة اليهودية.

في السنوات التي سبقت السابع من أكتوبر، لاقت حملة "ما بين الحربين" إشادةً واسعةً في الأوساط الأمنية "الإسرائيليةواحتفل الاستراتيجيون والمسؤولون عن هذه الاستراتيجية بإنشائها، وقد دُهش المحللون من نجاح "إسرائيل" في ضرب أعدائها ومنعهم من اكتساب القوة؛ فقد كانت المخاطرة ضئيلة والمكاسب كبيرة. لكن الاحتفالات كانت سابقة لأوانها؛ فإن كانت الحملة قد منعت أعداء "إسرائيل" من ازدياد قوتهم، لكنها لم تُضعفهم في الواقع. وبالنظر إلى الماضي، فقد ارتكبت "إسرائيل" خطأً فادحًا واحدًا في مواصلتها هذه الحملة؛ حيث اختارت عدم تقويض قدرات حماس، حيث اعتبرت المستويات العسكرية والسياسية حماس تهديدًا أقل، لا سيما بالمقارنة مع "حزب الله"، وبهذه الطريقة، يمكن القول إن الحملة هي التي سهلت الطريق لمذبحة السابع من أكتوبر.

وقد بدأت مراجعة داخل الجيش "الإسرائيلي" وأجهزة الاستخبارات فور وقوع الهجمات الكارثية تقريبًا؛ حيث تقدّم مسؤول تلو الآخر ليتحمل مسؤولية إخفاقاته (باستثناء نتنياهو). وكان الفشل في التنبؤ بالهجوم، ونشر القوات بعيدًا عن حدود غزة قبل الهجوم، وضعف الاستجابة الفورية لاختراق الأراضي "الإسرائيلية" من بين الأخطاء التي استوجبت المساءلة. ومن اللافت للنظر، أنه لم يكن هناك أي حديث يُذكر عن "معركة ما بين الحربين"؛ فبعد أشهر فقط، أي بعد ما يقرب من عام على حرب السابع من أكتوبر، بدأت الأسئلة  تُوجَّه إلى المسؤولين السابقين والحاليين عن رأيهم فيما يُمكن اعتباره عنصرًا أساسيًا في استراتيجية الجيش "الإسرائيلي"، التي أدت إلى أسوأ فشل عسكري واستخباراتي في تاريخ البلاد. وكما هو متوقع، لم يتفق الإسرائيليون؛ فقد أقرّ بعض المسؤولين ببساطة بأن الحملة فشلت في تحقيق هدفها الرئيسي لأنها فشلت في منع حرب كبرى، بينما رفض آخرون هذه الفكرة رفضًا قاطعًا، وزعموا أن الحرب كانت ستكون أسوأ بكثير لو لم تُضعف "إسرائيل" أعداءها بشن هذه الحملة.

ولعلّ الردّ الأكثر إثارةً للاهتمام جاء من مسؤول سابق في سلاح الجو؛ حيث زعم أن بعضًا من أكثر الاستراتيجيات إثارةً للإعجاب، التي نفّذها الجيش في أكثر اللحظات دراماتيكيةً في الحرب الحالية على الجبهات المتعددة، استُوحِيَت من "معركة ما بين الحربين". فكانت الضربات الجوية الموجهة بعناية والمبنية على معلومات استخباراتية عالية الدقة، في صميم "معركة ما بين الحربين"، وهذه الإجراءات هي التي مكنت من القضاء على الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله. كما أظهر قصف الأصول النووية في إيران خلال حرب الـ12 يومًا هذه القدرة، وكانت الضربات السريعة، التي تعتمد على معلومات استخباراتية آنية، وغيرها من المؤشرات الدالة على "معركة ما بين الحربين"، جليةً طوال الحرب وحتى اليوم. ومن خلال ردود المسؤولين "الإسرائيليين"، يمكن التوصل إلى استنتاج مفاده أن "الحملة بين الحربين" ربما كانت أنجح فشل عسكري في التاريخ الحديث.

وفي حين أن الحرب في غزة ما زالت مشتعلة ولم ينقطع تهديد الحوثيين من اليمن بعد، يمكن للمرء أن يرى بوضوح بصمة "الحملة بين الحربين" على جبهات أخرى؛ فبالتنسيق مع الولايات المتحدة وحكومة لبنان، يواصل "الإسرائيليون" ضرب "حزب الله" أينما حاول إعادة بناء نفسه. كما اتبعت "إسرائيل" النهج نفسه في الغارات الجوية التي دمرت مئات الأسلحة في سوريا بعد انهيار نظام "الأسد" في كانون الأول/ ديسمبر 2024، ولا شك أن تدمير تلك الأسلحة أطال المدة التي تحتاجها سوريا لتشكل تهديدًا حقيقيًا ضد "إسرائيل". وفي الضفة الغربية، تواصل "إسرائيل" العمل بشكل استباقي لكبح جماح الخطط العنيفة للجماعات الإرهابية، المعروفة منها والحديثة، ويمكن تخيّل استراتيجية مماثلة في غزة، بمجرد إخضاع القطاع للسيطرة "الإسرائيلية" الكاملة.

على صعيد آخر، يبدو أن "الموساد" عاد أيضًا إلى العمل في إيران؛ فقد أودت انفجارات غامضة بحياة العديد من الشخصيات العسكرية الإيرانية، ولم يُلقِ النظام باللوم على "إسرائيل" بعد، لكن يبدو أن جميع الدلائل تشير إلى تورطها الخفي. وقد لخّص مسؤول كبير سابق الأمر قائلًا: "لن يكون الأمر متشابهًا تمامًا، قد لا نسميها حملة بين الحروب، لكنها متشابهة جدًا. أعتقد أننا سنرى إسرائيل تدّعي مزيدًا من الفضل لما تفعله في بعض الأماكن، وستلتزم الصمت في أماكن أخرى. لكن الهدف واحد؛ إبقاء أعدائنا أضعف لفترة أطول، ومنع الحرب القادمة حتى نرغب في شنّها بشروط إسرائيل". ولا شك أن عمليات المنطقة الرمادية "الإسرائيلية" تتزايد مع هدوء الحرب متعددة الجبهات، لكن من المرجح الآن أن تختلف حسابات المخاطر والمكاسب بالنسبة لـ"إسرائيل" من مسرح إلى آخر في الشرق الأوسط؛ فلا يُشكّل ضرب الأصول في لبنان وسوريا مخاطر تُذكر في الوقت الحالي، ولا يبدو "حزب الله" ولا نظام "الشرع" متحمسين للقتال.

لكن النظام الإيراني قد يكون مستعدًا لصراع جديد؛ فإذا نفذ الجيش "الإسرائيلي" عمليات تتجاوز الخط الأحمر الإيراني، وهو خط غير واضح المعالم حاليًا، فسيكون هناك خطر حقيقي من التصعيد. وقد تؤدي الغارات الجوية على المنشآت العسكرية، ردًا على تجديد النظام الإيراني لقدراته في إنتاج الصواريخ الباليستية، إلى رد فعل مؤلم، بينما يحتفظ النظام بالقدرة على إطلاق الصواريخ الباليستية على "إسرائيل" وتوجيه ضربات بدقة عالية. وبالتالي، فعلى "الإسرائيليين" التفكير مليًا في كيفية ومكان إجراء عملياتهم المستقبلية في إيران، فقليل من "الإسرائيليين" يرحبون بفكرة العودة إلى ملاجئهم للبقاء لفترات طويلة.

ومن المرجح أن تكون هناك حاجة إلى حملة "إسرائيلية" مختلفة، تزامنًا مع جهود مدروسة لمنع النظام من العودة إلى قوته السابقة؛ ربما تدعم فيها "إسرائيل" حركة المعارضة الإيرانية وتُضعف النظام من الداخل، وتُستخدم فيها تدابير نفسية وسياسية ودبلوماسية واقتصادية وتدابير أخرى مصممة لتقويض سلطة الملالي. فمن جانبهم، يدرك "الإسرائيليون" أنه لا يجب السماح للنظام بالراحة بعد الهزيمة التي مُني بها في حزيران/ يونيو الماضي. والأهم من ذلك، أن هذه الاستراتيجية بالغة الأهمية، لأنها تُقدم حلًا أكثر ديمومة وأقل تقلبًا لطموحات الجمهورية الإسلامية، وهو ما لا يُمكن أن تقدمه "الحملة بين الحروب".

فما تُقدمه هذه الحملة هو الوقت، والوقت هو ما تحتاجه "إسرائيل"؛ فقد استغرقت عملية النداء اللاسلكي التي قضت على قادة "حزب الله" سنواتٍ لتنفيذها، وكان جمع المعلومات الاستخباراتية اللازمة للقضاء على "نصر الله" في مخبئه ببيروت مُضنيًا، كما تطلبت العملية المتقدمة التي أطلقت حملة "الأسد الصاعد" في إيران سنواتٍ من التحضير. والآن لدى "إسرائيل" حيلٌ أقل مما كانت عليه قبل عام؛ فمعظم إنجازاتها الأخيرة لا يُمكن تكرارها، لذا فقد عاد مخططو الحرب وجواسيسهم إلى طاولة التخطيط، وبالطبع سيحتاجون إلى وقت للاستعداد للجولة القادمة ضد إيران، ناهيك عن أعداء آخرين.

بالمقابل، فلدى "إسرائيل" بعض المشاريع الأخرى طويلة الأجل ذات الصلة والتي ستتطلب وقتًا أيضًا؛ مثل إعادة إعمار البلدات الشمالية التي دمرها "حزب الله"، وإعادة بناء البلدات في غلاف غزة. كما إن إنعاش الاقتصاد "الإسرائيلي" الذي تعرض لضربة موجعة أمر بالغ الأهمية، ويُعتبر توسيع القاعدة الصناعية الدفاعية للبلاد أولوية أخرى، بعد أن أوقفت إدارة "بايدن" تسليم الذخائر عام 2024 وقدمت لمحة عن مستقبل محتمل لا تدعم فيه أمريكا "إسرائيل". وسيكون منع الصراع الكبير لعدة سنوات لتسهيل هذه المبادرات أمرًا حيويًا لصحة البلاد على المدى الطويل، وبالطبع لا يمكن أن تبدأ هذه المبادرات حتى تنتهي الحرب الحالية. كما يقول "كليفورد ماي": "في الشرق الأوسط، لا توجد انتصارات دائمة، بل معارك دائمة". وهذا الواقع يعكسه صعود وهبوط وتصاعد "حملة ما بين الحربين"، وإن كان هذا لن يحل جميع مشاكل "إسرائيل"، لكن إبقاء أعدائها ضعفاء وكسب الوقت سيشكلان إنجازًا كبيرًا بعد الحرب المرهقة التي خاضتها "إسرائيل".