الغرب على مفترق طرق.. ولاية "ترامب" قد تكون الضربة القاضية للهيمنة الغربية وبداية تشكل نظام جيوسياسي جديد

الساعة : 15:53
23 سبتمبر 2025

المصدر: فورين أفّيرز

إرهاصات أفول نجم الغرب وصعود قوى جديدة

أصبح الحديث عن "عالم ما بعد الغرب" شائعًا كعلامة على التحوّلات العميقة التي يعاني منها النظام الدولي، والتي تتمثل في صعود قوى غير غربية مثل الصين والهند والبرازيل ودول الخليج وغيرها. إلى جانب ذلك، يواجه "الغرب" نفسه، كمجتمع سياسي واقتصادي وأمني موحد، أزمة عميقة وهو على أعتاب الانهيار، وقد تكون الولاية الثانية للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الضربة القاضية لهذا الكيان.

فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الغرب يشكل ناديًا متماسكًا من الديمقراطيات الاقتصادية المتقدمة، التي أرست النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد. ولم يكن تضامن الدول الغربية قائمًا فقط على مواجهة المخاطر المشتركة بل على الالتزام بحماية عالم مفتوح يرتكز على مجتمعات وتجارة حرة، وعلى التزام جماعي بالدفاع عن هذا النظام. وقد ضم هذا النادي كلًا من الولايات المتحدة، كندا، المملكة المتحدة، أعضاء الاتحاد الأوروبي، وحلفاء في آسيا والمحيط الهادئ مثل أستراليا، نيوزيلندا، اليابان، وكوريا الجنوبية، التي تبنّت المبادئ الليبرالية للحكم واقتصاد السوق.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي توسّعت حدود هذا النادي لتشمل بلدان الكتلة السوفيتية السابقة من خلال الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. كما أسس الغرب مؤسسات دولية لدعم أهدافه المشتركة مثل الناتو، ومجموعة السبع، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، علاوة على التنسيق داخل الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومجموعة العشرين. ورغم بعض الانقسامات والتوترات التاريخية، استمر التضامن الغربي قويًا حتى عهد الرئيس "ترامب " الأول.

التحديات المتصاعدة في عهد "ترامب"

مع عودة "ترامب" إلى الرئاسة بداية عام 2025، شهد الغرب تحولات حادة للغاية؛ حيث تبنى "ترامب" سياسة "أمريكا أولًا" التي تقوم على القومية والسيادة والأحادية والحمائية والمعاملاتية البحتة. ولم يعد "ترامب" يتحدث عن دور أمريكا القيادي في العالم أو مسؤولياتها الدولية، بل بدأ ينكر أهمية التحالفات والتعددية والقانون الدولي، وقوّض قدرة بلاده على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والتقدم في الخارج، كما رفض دعم النظام الليبرالي الدولي من التجارة المفتوحة إلى الاستقرار المالي والأمن النووي وتغير المناخ.

لقد أذهلت هذه التغيرات أقرب الحلفاء الغربيين؛ فقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بحزن إن "الغرب كما عرفناه لم يعد موجودًا". وبينما حاول قادة الغرب التغطية على هذه الحقيقة، إلا أنهم يعترفون بصعوبة استمرار التضامن في ظل هذه السياسات. فزوال الغرب ككيان شامل سيؤدي إلى خسائر ثقيلة؛ حيث سيفقد النظام الدولي الليبرالي مرساه الأساسي ومحرك تقدمه. فالمبادئ الليبرالية الغربية هي مفاهيم عالمية، بينما تركز القومية الجديدة على الحدود والخوف من الآخر، ما يهدد المبادئ الليبرالية محليًا ويشجع صعود التعددية غير الليبرالية والسيطرة القمعية لقوى استبدادية كبرى. رغم ذلك، يتيح هذا الفقدان فرصة للقوى الصاعدة لبناء شبكات تعاون دولي جديدة تلائم الواقع الحالي، لكنه يفتح أيضًا باب نحو عالم أقل استقراراً وأمناً.

عودة ترامب واضمحلال الغرب

استمر الغرب ككيان موحد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؛ حيث كان من المنتظر أن يتوسع ليشمل مزيدًا من دول العالم بناءً على تبنيها للقيم الليبرالية. لكن واقعيًا، وجدنا صعود قوى جديدة، ليس فقط للمطالبة بنصيبها في المؤسسات الدولية، بل لتحدي المبادئ التي ترتكز عليها تلك المؤسسات. وبالتحول إلى بعد حضاري أكثر، تأثر الغرب بهجمات 11 سبتمبر "وحرب الإرهاب"، وكذلك بأزمات الهجرة وصعود ردود الفعل القومية التي عززتها مثل هذه الأحداث.

لكن رغم هذه التحديات، حافظ الغرب على تضامنه حتى عهد "بايدن"؛ حيث استعاد الثقة في دور الولايات المتحدة، ظنًا أن الكوكبة الغربية ستظل قائمة بدعم واشنطن وقدراتها الأمنية. وبناءً على ذلك، استمرت دول الغرب في اتباع التزام واشنطن، مستندةً إلى القيم المشتركة والمواءمة السياسية.

لكن مع عودة "ترامب" وتصرفاته خلال العام االحالي، تحطمت الثقة هذه؛ حيث فرض رسومًا تجارية عالية وهدد حلفاءه بزيادة الإنفاق الدفاعي، كما شن هجمات أحادية الجانب، ما أجبر دولًا أوروبية عدة على زيادة إنفاقها الدفاعي، وأعاد الاتحاد الأوروبي إحياء فكرة الاستقلال الاستراتيجي.

أما في آسيا فقد تزعزعت الثقة في الولايات المتحدة، ما دفع الحلفاء إلى تنويع خياراتهم التجارية والتحالفات، مع اتجاه متزايد نحو "الانحياز المتعدد" لتجنب الاعتماد الحصري على قوى كبرى.

وينعكس هذا التغير في تراجع ثقة الأوروبيين في الولايات المتحدة كشريك موثوق؛ حيث أظهرت الاستطلاعات تراجعاً في ثقتهم وأصبحوا أقل اتكالًا على واشنطن. وإحدى الضحايا المؤسسية لهذا الانفصال هي "مجموعة السبع"، التي كانت رمزًا للتضامن الغربي في الحوكمة الاقتصادية، حيث انتقد "ترامب" المجموعة وقلل من شأنها، ما أضعف وحدتها وأزاحها إلى ما يشبه "مجموعة الستة + واحد".

فرص وتحديات القوى الصاعدة

في الوقت الذي تجد فيه القوتان الكبيرتان، الأمريكية والصينية، نفسهما في تنافس محتدم، تجد القوى الصاعدة نفسها تتحرك لتأسيس شراكات جديدة ومرنة عبر العالم، خصوصًا دول مثل البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا، التي تحاول بناء جسر مع ديمقراطيات السوق المتقدمة مثل فرنسا وألمانيا وكندا وأستراليا. ويعيد هذا المشهد الجديد رسم النظام الدولي؛ حيث تسعى الدول إلى أشكال أكثر من المرونة الدبلوماسية والاقتصادية بدلًا من الالتزام بحلف واحد.

ويبدو أن "ترامب"، الذي أكد في وارسو عام 2017 أن السؤال مصيري حول إرادة الغرب في البقاء، يفهم الغرب ليس ككيان سياسي ليبرالي، بل ككيان إثني وحضاري مبني على روابط الدم والتراب، وهو فهم يختلف جذريًا عن فكرة الغرب الليبرالي المفتوح. في الواقع إن الغرب اليوم منقسم داخليًا؛ حيث يحيد عن مفهوم التضامن السياسي الأيديولوجي إلى وطنية متشددة تحقق الهوية الحضارية، بدلًا من التزام المبادئ الديمقراطية. ويتجلى هذا الانقسام بوضوح في تصريحات شخصيات مثل نائب "ترامب"، جى دي فانس، الذي انتقد القيود "اليقظة" على حرية التعبير في أوروبا، معتبرًا أن الخطورة عليها أكبر من تهديد روسيا.

تباين في الاستراتيجيات والادراك الأمني

لقد ظلت الديمقراطيات الغربية تتحد في العديد من الأزمات، ودافعت عن حقوق الإنسان والقيم الليبرالية، وسعت لتنسيق سياساتها عبر شبكات متعددة الأطراف، لكن زوال الغرب كمظلة جيوسياسية واحدة سيؤدي إلى تصادم مصالح بين الولايات المتحدة وشركائها السابقين. ولا يعبر هذا فقط عن تراجع هيمنة أمريكا، بل عن تباين عميق في القيم واستراتيجيات الإدراك الأمني، الأمر الذي قد يدفع بعض الدول الغربية إلى البحث عن استقلالية استراتيجية عن واشنطن.

إن هذا الانفصال العميق يضع تحديات تاريخية للنظام العالمي الذي تأسس منذ منتصف القرن العشرين، لكنه في الوقت نفسه يخلق فرصًا للقوى الصاعدة على الساحة الدولية، التي قد تبني تحالفات جديدة أكثر تناسبًا مع عصر ما بعد الغرب.