ثلاثة خيارات صعبة أمام الرياض لردع طهران

التهديد الإيراني لأمن السعودية سيظل التحدي الأكبر أمام المملكة رغم الهدوء الحالي

الساعة : 14:00
5 سبتمبر 2023
التهديد الإيراني لأمن السعودية سيظل التحدي الأكبر أمام المملكة رغم الهدوء الحالي

المصدر: ميدل إيست إنستيتيوت

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

الرابط: لقراءة وتحميل الترجمة / اضغط هنا

نقاط رئيسية

·       من بين كل التحديات التي تواجه "رؤية 2030" بالسعودية، يعتبر تهديد إيران للأمن القومي السعودي التهديد الأكبر على الإطلاق. ولتحقيق النجاح يجب على المملكة ليس فقط تعزيز دفاعاتها ضد المزيد من الهجمات الإيرانية والحوثية، لكن أيضًا عليها إنشاء مستوى من الردع ضد طهران.

·       لدى الرياض ثلاثة خيارات ردع رئيسية لا تتعارض مع بعضها هي: الدبلوماسية، والحماية الخارجية، وتطوير القدرات العسكرية الأكثر فعالية.

·       إن الخيار الدبلوماسي به قصور كبير بسبب التناقض العميق في تصورات التهديد وأهدافه بين المملكة وإيران. ومع ذلك، ربما تكون الدبلوماسية الرهان الأفضل للرياض في الوقت الحاضر للحفاظ على الهدوء وتحقيق الردع.

·       قد تستطيع المملكة الحصول على ضمانات أمنية رسمية من حليف خارجي لمنع إيران من مهاجمتها مرة أخرى؛ والمرشحان للعب هذا الدور هما الولايات المتحدة و(ربما) الصين. لكنّ فرص السعودية في التوصل لاتفاق دفاعي رسمي مع الصين أو الولايات المتحدة ليست جيدة، رغم قوة احتمال تعزيز التعاون الأمني مع الولايات المتحدة.

·       للحفاظ على سلام طويل المدى، يتعين على المملكة أن تعمل على تطوير قدرات عسكرية أكثر فعالية؛ ففي الوقت الحالي لا تمتلك الترسانة العسكرية السعودية سوى القليل من أدوات الردع ضد إيران، كما أن تصميم الرياض على تعزيز مستوى الردع من خلال تطوير قدرات الصواريخ الباليستية محفوف بالمخاطر.

·       قد لا تكون واشنطن قادرة على منع المملكة من الحصول على صواريخ باليستية أكثر قوة، لكن يمكنها أن تساعد الرياض على تطوير قدراتها العسكرية الأخرى من خلال نهج جديد تمامًا للتعاون العسكري.

الأمن هو الهدف الأكبر للسعودية

الأمن جزء لا يتجزأ من إعادة الهيكلة الاقتصادية في السعودية؛ فحتى خوضها الحرب في اليمن عام 2015، كانت السعودية تعيش في بيئة أمنية هادئة نسبيًا؛ ورغم استمرار التوترات مع إيران وظهور التهديد المتمثل في التطرف العنيف محليًا أو إقليميًا، إلا أن الأول لم يتصاعد قط إلى أزمة عسكرية، فيما تم احتواء الأخير نسبيًا منذ عام 2003، حتى في ذروة تهديد "تنظيم الدولة الإسلامية" عام 2014 كانت المملكة آمنة نسبيًا.

لكن بدأ الوضع الأمني للمملكة يتدهور عندما أطاح الحوثيون بالحكومة المركزية في صنعاء في أيلول / سبتمبر عام 2014، واستولوا فيما بعد على جزء كبير من اليمن. ورغم أن اليمن ظل بمثابة شوكة في خاصرة السعودية لعدة عقود، إلا أن السعوديين قدّروا هذه المرة أن استيلاء الحوثيين على السلطة يمثل تهديدًا أكبر لأمنهم القومي، نظرًا للروابط المباشرة والمتنامية لميليشياتهم مع إيران.

وبعد أن رأوا كيف قامت طهران بإضفاء الطابع المؤسسي على نفوذها في أماكن مثل لبنان والعراق من خلال وكلاء شيعة محليين، خشي السعوديون من وجود موقع إيراني مماثل على حدودهم. ولمنع حدوث ذلك شن "بن سلمان" حربًا ضد الحوثيين؛ كانت في البداية بمساعدة تحالف عربي من الشرق الأوسط وأجزاء من شمال أفريقيا، لكن هذا التحالف ضعف فيما بعد وفشل "بن سلمان" في نهاية المطاف في كسر خصمه، الذي لا يزال يسيطر على الجزء الأكبر من المرتفعات الشمالية في اليمن وكذلك العاصمة صنعاء. ورغم أن الجمود العسكري المتبادل بين الحوثيين والقوات اليمنية المدعومة من السعودية أدى إلى هدنة في نيسان/ أبريل 2022، لا يزال الحوثيون يحتفظون بأسلحتهم الثقيلة، ما يعني أنهم لا يزالون يشكلون تهديدًا أمنيًا للسعودية.

هل ستمثل الدبلوماسية خيارًا ناجحًا للردع؟

إن الردع من خلال الدبلوماسية مفهوم قديم قدم تاريخ الحروب بين الأمم؛ فهو أداة أقل تكلفة بكثير من الحرب، وإذا تم استخدامها بشكل صحيح فقد تكون فعالة للغاية. وفي هذا الإطار، شكّلت ديناميكية الحرب بين مصر و"إسرائيل" في سبعينات القرن الماضي مثالًا واضحًا للدور الناجح الذي لعبته الدبلوماسية في تعزيز السلام الذي حققه الرئيس المصري الراحل، أنور السادات.

فهل تتمكن السعودية من تحقيق سلام دائم مع إيران من خلال لفتة تاريخية مثل مبادرة "السادات"؟ مع أنه لا ينبغي استبعاد هذا السيناريو إلا أنه غير مرجح، نظرًا للاختلافات الكبيرة مع الحالة المصرية "الإسرائيلية". لقد شعرت مصر و"إسرائيل" بالتهديد المتبادل وعانت كل منهما كثيرًا من الحروب المتعددة التي خاضها الطرفان. وكان كل جانب يخشى عدوان الطرف الآخر، وكان كل منهما يريد إنهاء الصراع المسلح، لذلك عندما تفاوض قادة الطرفين في كامب ديفيد بوساطة أمريكية، فقد هيمنت المسائل الأمنية الصعبة بطبيعة الحال على المحادثات.

من جهتها، لا تشعر إيران بالتهديد من القدرات أو النوايا العسكرية السعودية؛ حيث لا يشعر القادة الإيرانيون بالقلق بشأن احتمال وقوع هجوم سعودي ضد إيران، لكنهم يشعرون بالقلق من احتمال أن توفر المملكة منصة لعمليات عسكرية أمريكية و/أو "إسرائيلية" ضد بلادهم . وبالتالي فإن الاتفاق الدبلوماسي السعودي الإيراني، الذي يتضمن التزام السعوديين بعدم السماح باستخدام أراضيهم في عمليات عسكرية من قبل طرف ثالث، سيكون ذا أولوية بالنسبة للإيرانيين.

وليست الرياض الطرف الذي يريد الإيرانيون أن ينتزعوا منه التنازلات الأمنية؛ فقد كان وسيظل القلق الأمني الأول للإيرانيين هو القوة العسكرية الأمريكية في المنطقة تليها "إسرائيل" وليس قدرات السعوديين، وبالتالي فإن ما تريد إيران تقليصه وإزالته بشكل كامل من المنطقة هو النفوذ الأمريكي.

رغم كل ذلك، ففي خضم محاولة السعودية إنهاء حربها المكلفة في اليمن، وبينما تشاهد الولايات المتحدة تسحب قواتها من العراق وأفغانستان وتحدّ من تدخلها العسكري في المنطقة، بدأت حسابات المملكة تتغير بشأن المفاوضات مع إيران. وبدأ الشعور الملحّ بإنهاء هذا الأمر يتزايد في الرياض؛ فلم يكن الحوثيون يشكلون مقاومة كبيرة ضد المجهود الحربي السعودي فحسب، بل هاجموا أيضًا المدن والمطارات السعودية، ما ألحق أضرارًا بالغة بصورة الدولة التي تريد أن يُنظر إليها على أنها بلد آمن للأعمال والاستثمار الأجنبي المباشر.

وحتى كتابة هذه السطور، ورغم مرور أكثر من خمسة أشهر على الاتفاق السعودي الإيراني، لا أحد يعرف ما الاتفاقيات (إن وجدت) التي توصلت إليها الرياض وطهران بشأن الأمن؛ فالمطلب الأساسي للسعودية من التقارب مع إيران هو وقف الهجمات ضد المملكة، سواءً بشكل مباشر أو من خلال وكلائها الإقليميين. بالمقابل، تريد إيران من جانبها أموالًا من المملكة للتخفيف من مشاكلها الاقتصادية العميقة؛ إذ تسعى إيران للحصول على أموال سعودية وربما خليجية لدعم اقتصادها المتدهور والذي شكّل مصدرًا لاضطرابات اجتماعية واسعة، حيث قال السعوديون إنهم قد يستثمرون في إيران لكن في ظل الظروف المناسبة. كما تريد إيران من المملكة التراجع عن تمويل الشبكات الإعلامية المناهضة لها وإعادة حليفها "بشار الأسد" إلى جامعة الدول العربية، وهو ما فعلته الرياض.

مع كل ذلك، وإن كان إغراء طهران بالتطبيع والاستثمارات الاقتصادية وقبول "الأسد" دبلوماسيًا قد يجلب هدوءًا مؤقتًا، إلا أنه من غير المرجح أن يغير البيئة الاستراتيجية أو يبدد المخاوف السعودية تجاه إيران. فهذه الاستراتيجية السعودية تنمّ عن الاسترضاء أكثر من الدبلوماسية الفعالة، ولا يمكن النظر إلى نجاح الردع السعودي على أنه غياب للعدوان الإيراني. وإذا تم تجنب الخيار الأخير بناءً على التنازلات و"الجزرة" السعودية من جانب واحد، فينبغي استنتاج أن المملكة لم تؤسس سوى قدر ضئيل للغاية من الردع.

كما إن هناك أسبابًا تقلل من التفاؤل بشأن طول أمد الهدوء الحالي بين السعودية وإيران وهي:

أولًا: لا يُرجح أن توقف إيران دعمها العسكري للحوثيين لأن ذلك سيحرمها من موطئ قدم استراتيجي على مضيق باب المندب، وهو ممر بحري عالمي بالغ الأهمية يتحكم في الوصول إلى البحر الأحمر. وطالما ظلّ الحوثيون يمتلكون أسلحة إيرانية قادرة على ضرب أهداف في عمق المملكة، فإن الأمن السعودي سيكون في خطر.

ثانيًا: من غير المتوقع أن تتوقف إيران عن الاستيلاء على الناقلات التجارية في مياه الخليج، حيث تعتبر ذلك رد فعل على قيام الولايات المتحدة أحيانًا بمصادرة شحنات النفط الإيراني.

ثالثًا: لا يُتوقع أن تتوقف إيران عن دعم حلفائها في لبنان والعراق أو أن تحترم فجأة سيادة هذين البلدين؛ حيث يتعارض ذلك إلى حد كبير مع الأيديولوجية الإيرانية وعقود من السياسة الخارجية في العالم العربي.

رابعًا: من المحتمل أن يتصاعد النزاع بين السعودية والكويت من جهة وإيران من جهة أخرى حول حقل الدرة البحري للغاز الطبيعي. فقد قال الكويتيون إنهم والسعوديين يمتلكون حصرًا الثروة الطبيعية في منطقة الخليج (المنطقة المقسمة البحرية)، في حين يدّعي الإيرانيون أن لديهم حصة فيها ووصفوا الاتفاق السعودي الكويتي الموقع العام الماضي لتطويرها بأنه "غير قانوني".

مدى نجاعة الحماية الخارجية في تحقيق أمن المملكة

ليست السعودية غافلة عن حدود الدبلوماسية مع إيران، ولهذا لم تضع كل "بيضها في سلة واحدة" لتحقيق الردع ضد خصمها اللدود. وفي هذا السياق، يمكن للمملكة أن تحصل على ضمانات أمنية رسمية من حليف خارجي لمنع إيران من مهاجمتها مرة أخرى، والمرشحان اللذان يمكن أن يلعبا هذا الدور هما الولايات المتحدة وربما الصين.

لكن رغم وساطتها في اتفاق التطبيع السعودي الإيراني، لا يُرجح أن تلتزم الصين بترويض إيران، لأنها ليست مهتمة بتحمل مسؤوليات أمنية كبيرة في المنطقة (التي يقع العبء الثقيل فيها على السعودية وإيران). أما بشأن الاتفاق، فقد لجأ الطرفان إلى بكين لتوفير مكان للقوة العظمى والعمل كضامن ناعم، كما لا يوجد في الاتفاق ما يتطلب من بكين لعب دور شرطي أو رقابي حال ارتكاب تجاوزات من قبل أحد الجانبين.

كذلك، فإن الصين لن تختار بين المملكة وإيران، لأنها تعتمد على كلتيهما  في الحصول على واردات كبيرة من النفط، كما إن الصين وإيران شريكان استراتيجيان رغم أن الشروط الحقيقية لهذه الشراكة غير واضحة؛ لذلك من الصعب أن توافق الصين على التحالف رسميًا مع المملكة وتزودها بالحماية ضد إيران. على عكس ذلك، ولتحقيق أهدافها في المنطقة يُرجح أن تستمر بكين في استخدام الاقتصاد ثم بعض التدابير الدبلوماسية لاحقًا.

حتى مع افتراض أن الحسابات الاستراتيجية للصين قد تتغير في المستقبل، وأن القيادة الصينية قد تفكر في توسيع نطاق الردع الرسمي للمملكة لحماية مصالحها الاقتصادية طويلة الأمد، فإن "جيش التحرير الشعبي" لن تكون لديه القدرات العسكرية ولا المنافذ ولا القواعد اللازمة في المنطقة ليتمكن سريعًا من لعب دور الوصاية في ذلك. إن الاستراتيجية العسكرية الصينية تركز على تحديث وتطوير القدرات اللازمة لخوض قتال متطور وقصير الأمد في منطقة المحيطين الهندي والهادي، بما في ذلك الصواريخ المتقدمة تكنولوجيًا وطائرات الشبح والسفن البحرية والغواصات، وغير ذلك من المعدات. ومع أن الصين تستطيع حاليًا استخدام هذه القدرات بالقرب من موطنها، إلا أنها تواجه نقصًا في العمليات المشتركة والتكتيكات ونشر هذه الأصول على مستوى العالم.

على الجانب الآخر، إذا كانت فرص السعودية في التوصل لاتفاق دفاعي موثوق مع الصين ليست جيدة، فإن الأمر ليس أحسن حالًا مع الولايات المتحدة. وليس هذا بسبب عدم المحاولة؛ فمقابل التطبيع المحتمل لعلاقاتها مع "إسرائيل"، طلبت المملكة ضمانات أمنية رسمية من واشنطن (وقد يصل هذا إلى حد الردع الرسمي الموسع) والمساعدة في إنشاء برنامج نووي مدني محلي.

نظريًا، قد يساهم اتفاق التطبيع السعودي "الإسرائيلي" في تحقيق الأمن في الشرق الأوسط والازدهار الاقتصادي بالمنطقة، وهو ما ستستفيد منه الولايات المتحدة والعالم. لكن "بايدن"، الذي يتخذ القرار بشأن هذه القضية (بتفويض نهائي من الكونجرس)، جعل الأمر يبدو وكأن واشنطن ليست مستعدة في المدى القريب لدفع الثمن الباهظ لاتفاق دفاعي رسمي مع المملكة، لدعم رؤية لا تخدم إلا جزءًا من المصلحة الوطنية للولايات المتحدة بشكل غير مباشر. ومن الصعب أيضًا تصور سيناريو يتعاون فيه البنتاغون وأجهزة الأمن القومي الأمريكي بشكل كامل مع فكرة إلزام الولايات المتحدة بتخصيص مزيد من الموارد العسكرية للشرق الأوسط، بينما تتجه استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني الأمريكيتين لتركيز الولايات المتحدة بشكل أكبر على استيلاء الصين المحتمل على تايوان، وحرب روسيا الحالية ضد أوكرانيا.

في السياق ذاته، هناك بعض المخاوف الأخرى في أذهان مسؤولي الأمن القومي الأمريكيين وهي:

أولًا: إذا تجنبت إيران القيام بعمل عسكري مباشر ضد السعودية (بسبب اتفاقية دفاع أمريكية سعودية)، لكن في الوقت ذاته استمرت في العمل في المنطقة الرمادية وكثّفت أنشطتها المزعزعة للاستقرار ضد المملكة من خلال وكلائها الإقليميين، فكيف سترد واشنطن؟ بتعبير أكثر دقة؛ إذا انتُهكت الهدنة بين المملكة والحوثيين الموالين لإيران (من المحتمل أن يحدث ذلك نتيجة اعتراض إيران على التطبيع السعودي "الإسرائيلي")، وتعرضت أهداف مدنية سعودية لهجوم مرة أخرى من قبل الحوثيين بأسلحة إيرانية، فهل سيؤدي ذلك إلى رد عسكري أمريكي ضد إيران أو ضد الحوثيين؟ وعلى نطاق أوسع، هل الولايات المتحدة مستعدة لخوض حرب ضد إيران لصالح السعودية؟ لن يكون لدى واشنطن إجابات سهلة على هذه الأسئلة لكن الرياض تتوقعها.

ثانيًا: يمكن أن تؤدي اتفاقية الدفاع إلى تعميق الاعتماد الأمني السعودي على واشنطن وعرقلة الإصلاحات الدفاعية الضرورية؛ فإحدى رغبات واشنطن فيما يتعلق بشركائها الإقليميين العرب هي أن يقوموا ببناء قدراتهم العسكرية الخاصة، حتى يتمكنوا من حماية أنفسهم بشكل أفضل وتقاسم عبء الأمن الإقليمي. وإذا كانت حرب المملكة في اليمن تمثل أي مؤشر، فإن قدراتها القتالية في الحرب مشكوك فيها وتحتاج لإصلاحات واسعة النطاق، ومن المحتمل، وإن لم يكن حتميًا، أن تؤدي اتفاقية الدفاع مع واشنطن إلى تأخير (بل وحتى تعطيل) تلك الإصلاحات المهمة.

ثالثًا: قد يشكّل الاتفاق الدفاعي مع السعودية تحديًا للعلاقات الأمنية مع كل من "إسرائيل" ومصر والإمارات؛ حيث سيتعين على واشنطن أن تشرح لهؤلاء الشركاء الإقليميين التقليديين، ولتايوان وأوكرانيا أيضًا، سبب استبعادهم، وإلا فقد تقدم لهم التزامات أمنية مماثلة، لكن هذا سيكون عرضة لخطر التمدد العسكري الأمريكي في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم.

لا بديل  عن تطوير قدرات عسكرية أكثر فعالية

بغض النظر عن تحقق وعود التطبيع الدبلوماسي مع إيران من عدمه وإمكانية الحصول على الحماية الخارجية، فليس هناك بديل للدفاع عن النفس في الداخل وبناء قدرات الردع؛ فهذه هي القاعدة الأولى للبقاء في العلاقات الدولية، خصوصًا في البيئات الخطرة مثل الشرق الأوسط. وبالتالي، ينبغي على المسؤولين السعوديين إعطاء الأولوية لمزيد من الاعتماد على الذات وتطوير قدرات عسكرية أكثر فعالية، سواءً على المستوى المحلي أو بالتعاون مع الشركاء الدوليين، لردع إيران، وإن كانوا يفعلون ذلك بدرجة ما. ولم يكن أي زعيم سعودي منذ تأسيس المملكة عام 1932 أكثر تصميمًا على إصلاح مؤسسة الدفاع السعودية والقوات المسلحة من ولي العهد الحالي، محمد بن سلمان. وسواءً نجح في ذلك أو كان "يقضم أكثر مما يستطيع مضغه"، فهذه مسألة منفصلة، لكن الرؤية والخطة والجهد كلها موجودة.

إن التحدي الذي يواجه التحول الدفاعي السعودي، مثل أي عملية أخرى من هذا القبيل في أي مكان آخر، هو أنه نظرًا لأنه شامل فإن الأمر سيستغرق سنوات عديدة قبل أن يكون له تأثير ملموس على الدفاع الوطني. فالسعوديون لا يشترون معدات عسكرية جديدة فحسب كما اعتادوا أن يفعلوا، إنهم يستثمرون في القواعد والمعايير والعمليات والإجراءات التي تشكل أساسًا دفاعيًا سليمًا، وهي أشياء لم يفعلوها من قبل؛ حيث يتعلمون كيفية إنشاء وإدارة أنظمة الموارد البشرية، وأداء الموازنة والمحاسبة بشكل أفضل، والحد من الهدر والفساد، وتشغيل الخدمات اللوجستية، وصياغة الاستراتيجيات والعقيدة، وإنشاء تسلسل القيادة، والتدريب بشكل أكثر فعالية، وتعزيز المفاصل، وبناء أنظمة الذكاء المهنية، وإجراء التخطيط، والقيام بعملية الاستحواذ بشكل صحيح. إنهم يحاولون في الأساس تحقيق المهمة الأكثر صعوبة التي تواجه أي قوة عسكرية طموحة؛ تحويل ميزانيتهم الدفاعية (الجيدة) إلى قوة قتالية حقيقية. وهم يدركون أن تحقيق ذلك يتطلب إعادة هندسة المؤسسات الدفاعية التي تسير جنبًا إلى جنب مع تغييرات كبيرة في الثقافة والمجتمع السعودي؛ فكل شيء مترابط، كما توضح "رؤية 2030". إن بناء جيش سعودي جديد يتطلب بناء مجتمع واقتصاد سعودي جديد، وهذا باختصار ما تدور حوله خطة "بن سلمان" الكبرى.

إلا أن هذه الرؤية ليست رادعًا؛ حيث تعيش المملكة بجوار جارة إيرانية معادية وتوسعية وتحتاج الآن إلى قدرات أقوى للردع والدفاع عن النفس، ولا يمكنها أن تنتظر سنوات حتى تؤتي عملية الإصلاح الدفاعي الواسعة هذه ثمارها (على افتراض أنها ستحقق ذلك). إن خيارات الرياض ليست متفوقة لأنه لا يوجد حاليًا سوى القليل (إن وجد) في ترسانتها العسكرية مما يمكن أن يكون بمثابة رادع قوي ضد إيران. ورغم أن القوات الجوية الملكية السعودية حديثة، وهي أفضل وحدة في الجيش السعودي، وأكثر خبرة الآن بسبب مشاركتها الواسعة في اليمن، لكنها لن تكون على الأرجح أداة رادعة قوية لأنها غير مدربة على الهجوم بعيد المدى أو تنفيذ عمليات في مجالات جوية متنازع عليها ضد أهداف تتمتع بدفاعات قوية، (شبكة الدفاع الجوي الإيرانية كثيفة وهائلة)؛ باختصار، القوات الجوية الملكية السعودية ليست قوة هجومية فعالة.

رغم ذلك، فهناك خيار واحد يمكن أن يعزز موقف الردع السعودي على المدى القصير؛ وهو التسريع من تطوير قدرات الصواريخ الباليستية، لكن فعالية هذا الخيار غير مؤكدة كما إنه محمّل بالمخاطر، ومن المؤكد أنه ستصاحبه تكلفة عالية إما ملموسة أو تتعلق بالسمعة. إلا أنه يبدو أن القيادة السعودية عازمة على تبني هذا الخيار؛ فمنطقها في ذلك، سواءً كان مقنعًا أم لا، هو أن امتلاك ما يكفي من الصواريخ الباليستية الموجهة إلى طهران قد يردع القيادة الإيرانية عن شن هجمات ضد الأراضي السعودية. وبدلًا من الاعتماد على الدفاع الصاروخي حصراً، وهو أمر مكلف وغير مكتمل (رغم أن المملكة اكتسبت خبرة كبيرة في مجال الدفاع الصاروخي على مدى السنوات الماضية بسبب حربها في اليمن)، سيهدد السعوديون بمبدأ النار مقابل النار وبناء رادع صاروخي هجومي خاص بهم.

في هذا السياق أيضًا، من غير المؤكد إلى حد كبير إن كان تسريع السعودية لبرنامج الصواريخ الباليستية بمساعدة الصين سيردع إيران عن شن هجوم آخر؛ إذ من المعروف أن فهم الردع وتقييمه أمر صعب، خصوصًا بين الخصوم الذين تعاني قنوات الاتصال بينهم من قصور كبير. كما إن إيران حساسة للغاية تجاه الصواريخ، نتيجة تجربتها المروعة خلال حربها مع العراق بين عامي 1980 و1988، فالصواريخ السعودية قد تردعها لكنها قد تشن ضربات استباقية للقضاء على ذلك التهديد.