سياسة "ترامب" وفريقه قد تقوّض علاقات أمريكا وتدفع حلفاءها لفقدان الثقة فيها والاستغناء عنها

الساعة : 15:22
1 يوليو 2025
سياسة

المصدر: فورين أفيرز

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

إن تصوير الرئيس "ترامب" للولايات المتحدة على أنها دولة فاشلة ومنهكة وضعيفة ومدمرة جزئيًا، قد ساهم في صعوده إلى السلطة وجاذبيته السياسية الدائمة، لكن في تناقضٍ عجيب، فإن سياسته الخارجية تقوم على مبالغةٍ كبيرة في تقدير القوة الأمريكية. ويبدو أن "ترامب" ومستشاريه يعتقدون أنه رغم الوضع المتدهور المزعوم للبلاد، فإن أي عملٍ أحادي من جانب واشنطن لا يزال قادرًا على إجبار الآخرين على الاستسلام والخضوع للشروط الأمريكية. لقد ارتكزت القوة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في الغالب على التعاون لا على الإكراه، بينما يتجاهل فريق "ترامب" هذا التاريخ، ويأخذ جميع الفوائد التي حققها النهج التعاوني على محمل الجد، ولا يستطيع تصور مستقبلٍ تنسحب فيه دول أخرى من النظام الدولي القائم الذي تقوده الولايات المتحدة، أو تبني نظامًا جديدًا يتعارض مع المصالح الأمريكي، ومع ذلك فهذه هي النتائج التي تسعى إدارة "ترامب" إلى تحقيقها.

قال عالم السياسة، مايكل بيكلي، في مجلة "فورين أفّيرز" بأن الولايات المتحدة تتحول إلى "قوة عظمى مارقة، لا أممية ولا انعزالية بل عدوانية قوية، وتسعى جاهدة لتحقيق مصالحها الخاصة بشكل متزايد". وهذه الصورة دقيقة لكنها ناقصة، لأنها لا تعكس تمامًا مدى قدرة الآخرين على تقويض الهيمنة الأمريكية أو تقييدها؛ ففي عهد "ترامب" تكهن كثيرون بما إذا كانت الولايات المتحدة ستنسحب من دورها القيادي في العالم وإلى أي مدى.

لكن السؤال الأكثر إلحاحًا قد يكون: ماذا لو سبقت بقية دول العالم واشنطن، وانسحبت من النظام التعاوني الذي تقوده الولايات المتحدة والذي شكّل أساس القوة الأمريكية؟ قد يجادل البعض بأنه حتى لو لم يعجب حلفاء الولايات المتحدة والدول المحايدة طريقة "ترامب" في ممارسة القوة الأمريكية، فليس أمامهم خيار سوى مواكبتها، وسيتكيفون معها على المدى البعيد، محاولين قدر الإمكان استرضاءها، ومتجنبين التدخل إلا عند الضرورة القصوى. في نهاية المطاف، قد يكرهون الولايات المتحدة وينفرون منها، لكن ليس بقدر ما تنفر منها بالفعل كل من الصين وروسيا وغيرهما من منافسيها.

من هذا المنظور، ستكون الولايات المتحدة التي يريد "ترامب" إنشاءها أسوأ قوة مهيمنة، حتى لو أرادت دول أخرى الانسحاب من النظام الذي تقوده الولايات المتحدة أو العمل حول واشنطن، فإنها لا تملك القدرة على القيام بذلك فرديًا أو جماعيًا.

إن هذه النظرة تنتج عن قصور في الخيال، وهو مصدر شائع للفشل الاستراتيجي، لأن فن إدارة الدولة يتطلب من المرء توقع كيفية رد فعل الجهات الفاعلة الأخرى في النظام الدولي والقوى التي قد يحركونها. ولعدم قدرته على ذلك، اتخذ فريق "ترامب" نهجًا قائمًا على افتراضين خاطئين: أن الدول الأخرى والمنظمات الدولية والشركات ومنظمات المجتمع المدني لا تملك بديلًا عن الاستسلام في وجه المطالب الأمريكية، وأنه حتى لو ظهرت بدائل فإن الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على هيمنتها دون حلفائها. هذه هي الانعزالية المتخفية في صورة استراتيجية؛ فبدلًا من إنتاج نظام أقل تقييدًا تزدهر فيه القوة الأمريكية، سيؤدي ذلك إلى نظام أكثر عدائية تتلاشى فيه تلك القوة.

لن تعرف قيمة ما لديك حتى تفقده

رغم استخفاف "ترامب"، فإن الولايات المتحدة تتمتع بقوة وديناميكية لا مثيل لهما؛ فحوالي نصف التجارة العالمية وما يقارب 90% من معاملات الصرف الأجنبي العالمية تجرى بالدولار الأمريكي، وهو رصيدٌ استثنائيٌّ من القيمة يمنح واشنطن رفاهية الإنفاق بالعجز الذي قد يكون مُبالغًا فيه في أي مكان آخر. وعلى عكس معظم الدول المتقدمة الأخرى، تتمتع الولايات المتحدة بقوة عاملة متنامية في مقتبل العمر؛ حيث تفتخر البلاد بوفرة الموارد الطبيعية، وتجذب أمهر الكفاءات في العالم إلى جامعاتها وشركاتها، وتعزز الحراك الاجتماعي والاقتصادي الذي يُقلل من العداوات العرقية والدينية، ويحكمها نظام سياسي مُتكيف جيدًا مع مجتمع متنوع.

لكن "ترامب" وفريقه يُبددون هذه المزايا بمعدلٍ يُنذر بالخطر؛ فمنذ توليه منصبه في كانون الثاني/ يناير، تعرضت عناصر الديمقراطية الدستورية في البلاد للتقويض، بل الأسوأ من ذلك؛ تسليحها لخدمة أغراض حزبية أو إشباع رغبات "ترامب" الشخصية. فقد وسّع البيت الأبيض صلاحيات السلطة التنفيذية بشكل عدواني، عبر انتهاك سلطة الكونغرس ورفض الامتثال لأوامر المحكمة والتشكيك في استقلالية المؤسسات الحيوية مثل الاحتياطي الفيدرالي. كما استهدف "ترامب" الجامعات الأمريكية المرموقة، وحرمها من التمويل الفيدرالي الذي تستخدمه في ابتكار تقنيات وتطورات طبية، وسمح لإيلون ماسك بتجاوز البيروقراطية الفيدرالية، ما أجبر العديد من موظفي الخدمة المدنية الموهوبين، الذين يُديرون عمل الحكومة الفيدرالية وينفذون السياسة الخارجية الأمريكية، على الاستقالة.

في غضون ذلك، أدت حرب "ترامب" التجارية، التي تستهدف المنافسين والحلفاء على حد سواء، إلى تذبذب الأسواق وإثارة قلق المستثمرين، وإقناع شركاء واشنطن بأنهم لا يمنكهم الثقة بالولايات المتحدة. فقد هدد "ترامب" سيادة الحلفاء ووبخ قادتهم علنًا، بينما أغدق الثناء على الديكتاتوريين الذين يهددونهم. وقد أدى إلغاء الإدارة للمساعدات الخارجية الأمريكية إلى تقويض رافعة مهمة للنفوذ الأمريكي، وأرسل إشارة إلى مستوى من اللامبالاة لن يمر دون أن يلاحظه أحد، وبين رعب الأصدقاء وفرح المنافسين، انتقلت الولايات المتحدة من كونها "لا غنى عنها" إلى كونها "لا تطاق".

إن التجربة الأمريكية للهيمنة في النظام الدولي شاذة تاريخيًا، لأنها لم تتطلب كثيرًا من التحوط من جانب الآخرين؛ فعادةً ما تخلق القوة الصاعدة حوافز للدول الأخرى لموازنة نفوذها. لكن النظام الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة وحلفاؤها من رماد الحرب العالمية الثانية حال دون حدوث ذلك؛ فقد عززت قواعده المتفق عليها ومشاركته التوافقية نفوذ الدول الصغيرة والمتوسطة، التي تمتعت بالأمان الذي توفره القوة الأمريكية. إن هذا النظام ينهار الآن؛ فلدى "ترامب" قناعة أيديولوجية راسخة بأن الحلفاء عبء، وبالتالي فإن تكتيكه في المفاوضات يتمثل في استخدام النفوذ الأمريكي لانتزاع تنازلات من جميع الأطراف المقابلة في جميع الأوقات. لكن هذا النهج يفشل في مراعاة كيف يمكن للتعاون أن يعمل كمضاعف للقوة.

وخذ إيران مثالًا؛ حيث فرضت الولايات المتحدة عقوباتٍ قاسيةً عليها منذ عام 1979، لكن الضغط الأمريكي وحده لم يكن كافيًا لإجبار طهران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي، وتطلّب ذلك انضمام الصين وروسيا وحلفاء واشنطن الأوروبيين إلى نظام العقوبات. وفي حرب أوكرانيا مثال آخر؛ فمن أجل إنهاء الحرب قد ترغب إدارة "ترامب" في تخفيف العقوبات على روسيا، أو إجبار أوكرانيا على الرضوخ لعدوان موسكو.

وبالمثل، تريد الولايات المتحدة منع الصين من الحصول على أنواع معينة من التكنولوجيا المتقدمة، مثل الأدوات والمكونات الضرورية لتصنيع أشباه الموصلات، لكن دون امتثال الدول المصنعة لهذه الأشياء، بما فيها اليابان وهولندا، فلن تُجدي القيود الأمريكية نفعًا. كما إن التهديد باستبعاد الدول من السوق الأمريكية، أو حرمانها من استخدام الدولار الأمريكي في المعاملات، لن يفيد إذا كانت واشنطن ستُقيد الوصول إلى الأسواق مهما كلف الأمر.

في الواقع، لم تكن إدارة "ترامب" فريدةً في التحريض على تآكل نظام دولي يُصب في مصلحة الولايات المتحدة؛ فاستجابةً للاعتقاد السائد بين الناخبين الأمريكيين بأن التجارة الحرة أضرت بالصناعة الأمريكية وأفرغت الاقتصاد الأمريكي من محتواه، عارضت الإدارات الرئاسية الثلاث الأخيرة توفير الوصول إلى الأسواق، حتى للشركاء التجاريين المفضلين الذين تُعدّ مدخلاتهم أساسية للإنتاج الأمريكي. وعلى مدى سنوات عديدة، ناشد حلفاء الولايات المتحدة، لا سيما في آسيا، الذين يخشون من تنامي قوة الصين، واشنطن باتباع استراتيجية اقتصادية تسمح لهم بتقليل اعتمادهم على الصين.

لكن عندما يتعلق الأمر بحرق الجسور، فلا شيء يضاهي سرعة وتدمير سياسات "ترامب" في الأشهر القليلة الماضية؛ فوفقًا لاستطلاع رأي حديث أجرته شركة أبحاث الرأي "Cluster 17" ومجلة "Le Grand Continent"، فإن 51% من الأوروبيين "يعتبرون ترامب عدوًا لأوروبا". وهذا الشعور أقوى في الدول التي كانت سابقًا الأكثر دعمًا للولايات المتحدة، مثل الدنمارك وألمانيا، فقد وصف مستشار ألمانيا الحالي، فريدريش ميرز، "ترامب وفريقه إدارته بأنهم "غير مبالين لحد كبير بمصير أوروبا"، وقال: "ستكون أولويتي المطلقة تعزيز أوروبا بأسرع ما يمكن، حتى نتمكن تدريجيًا من تحقيق الاستقلال الحقيقي عن الولايات المتحدة"، وقد عبّرت كلماته عن اعتقادٍ أصبح اليوم رأيًا سائدًا في أوروبا.

أمريكا وحدها

في السنوات الأخيرة، كثّف خصوم الولايات المتحدة، بما فيهم الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، تعاونهم في مواجهة جهود واشنطن لعزلهم، وساعدوا بعضهم بعضًا على التهرب من العقوبات وتسليح جيوشهم وشن أعمال عدوانية مُختلفة. وهذا ليس مُستغربًا؛ فصانعو السياسات الأمريكيون يتمتعون بخبرة واسعة في التعامل مع مثل هذه المؤامرات، لكن ما ينقصهم هي الخبرة في عالم يبدأ فيه حلفاء أمريكا التقليديون والدول الأكثر حيادية العمل معًا، لكن ضد الولايات المتحدة.

إن التراجع العالمي عن واشنطن سيبدأ سريعًا في إحداث آثار ملموسة أكثر بكثير، وسيُلقي بظلاله على الاقتصاد الأمريكي؛ فقد تختار الدول عدم الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية أو قد تشتريها فقط بأسعار فائدة أعلى، ما يفرض تكاليف أعلى على واشنطن لخدمة الدين الوطني. ولا تستطيع الولايات المتحدة تحمل هذا الإسراف المُذهل في ديونها الوطنية إلا لأن المستثمرين يعتبرون الدولار الأمريكي ملاذًا آمنًا. لكن "ترامب" وحلفاءه الجمهوريين في الكونجرس يدمرون هذا الامتياز، برسوم جمركية وميزانية ستدفع أرقام الدين إلى مستويات غير مسبوقة، (لم يكن مفاجئًا أن تخفض وكالة "موديز" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة في أيار/ مايو). وبمرور الوقت، قد تعاني الولايات المتحدة من نزوح جماعي للمستثمرين.

كما إن الحكومات الأجنبية قد تبدأ استخدام الإعانات واللوائح لإنشاء سلاسل توريد تتجنب المكونات المصنوعة في أمريكا؛ فإذا استمرت واشنطن في إقامة حواجز كبيرة أمام السلع الأجنبية، فسيسعى شركاؤها التجاريون لأسواق أخرى، ما يزيد من تكاملهم مع بعضهم على حساب الشركات الأمريكية. ففي آذار/ مارس ، عقدت اليابان وكوريا الجنوبية، الحليفان الآسيويان الأكثر اعتمادًا على الولايات المتحدة، قمة تجارية مع الصين، أعلنت بعدها الدول الثلاث عن خطة مشتركة للتوصل لاتفاقية تجارة حرة ثلاثية جديدة، وتعهدت بالعمل معًا لتطوير "بيئة تجارية واستثمارية مستقرة" في المنطقة. إن واشنطن تحتاج لكل من طوكيو وسيول إلى جانبها لإنشاء "اقتصادات الحجم" والالتفاف على سلاسل التوريد الصينية؛ حيث تعتبر اليابان وكوريا الجنوبية ركيزتي الديناميكية الاقتصادية الآسيوية؛ وبدونهما لا يمكن أن تنجح الجهود الأمريكية لتهميش الصين.

من جهة أخرى، فإن ازدراء "ترامب" للتعددية يُعرّض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للخطر؛ فعلى مدى عقود ساهمت المؤسستان في تشكيل الاقتصاد العالمي لصالح واشنطن، لكن إدارة "ترامب" اتهمتهما بـ"التقصير" وطالبتهما بمواءمة أجنداتهما مع أجندة الرئيس، ما أثار مخاوف من أن واشنطن قد تنسحب منهما، أو تُحرمهما من مواردهما كما فعلت مع منظمة التجارة العالمية.

الخطر قد يتعدى الاقتصاد ويصل للأمن القومي

سيعاني الأمن القومي الأمريكي أيضًا إذا بدأت الدول في الانفصال عن واشنطن؛ ولنأخذ على سبيل المثال تبادل المعلومات الاستخباراتية، وهو مجال آخر من المتوقع أن يقل فيه التعاون مع واشنطن. إن هذه الممارسة تتطلب من شركاء الولايات المتحدة الثقة بأن أي معلومات يتشاركونها مع واشنطن لن تُستخدم ضدهم، وأن مصادر وطرق الحصول على تلك المعلومات ستبقى سرية. لكن في ولايته الأولى أدرك حلفاء الولايات المتحدة سريعًا أن "ترامب" يتعامل باستخفاف مع المعلومات السرية؛ ففي أيار/ مايو 2017، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن "ترامب" ناقش بلا مبالاة معلومات سرية حول مؤامرة إرهابية قدمتها "إسرائيل" للولايات المتحدة، مع مسؤولين روس زاروا البيت الأبيض. وقد ازداد القلق في ولاية "ترامب" الثانية؛ ففي آذار/ مارس استخدم عدد من مسؤولي حكومته تطبيق "سيجنال"، وهو تطبيق تجاري غير سري للهواتف المحمولة، لمشاركة ومناقشة تفاصيل سرية حول ضربة أمريكية وشيكة على الحوثيين في اليمن. وقد يدفع هذا التساهل الدول الأخرى إلى أن تصبح أكثر حذرًا بشأن ما تشاركه مع واشنطن وكيفية وتوقيت مشاركتها.

كما إن نهج "ترامب" في إدارة الجيش الأمريكي قد يُسهم في تراجع القيادة الأمريكية؛ حيث تم تحويل بعض أكثر وحدات الجيش تدريبًا من الاستعدادات القتالية المكثفة إلى المساعدة في إنفاذ قوانين الهجرة على الحدود مع المكسيك. وفي سعيها لتحقيق هذه الأولويات الرئاسية، ستفقد القوات المسلحة الأمريكية كفاءتها العملياتية، ما سيجعلها شريكًا أقل قيمةً واستعدادًا. وقد يختار الحلفاء تجنب امتلاك أسلحة أمريكية الصنع، خوفًا من أن ترفض واشنطن أو شركة أمريكية السماح لهم باستخدامها في الأزمات؛ كما رفض "ماسك" منح أوكرانيا القدرة على استخدام شبكة اتصالات "ستارلينك" الخاصة به، لشن هجوم على القوات الروسية في شبه جزيرة القرم عام 2022.

إن هذا التجنب قد يُشكّل بدوره مشاكل في قابلية التشغيل البيني؛ فجعل الجيوش تعمل معًا بشكل وثيق أمرٌ صعبٌ جدًا عندما تستخدم معدات متوافقة؛ وسيؤدي ذلك لتقويض إحدى المزايا الأساسية للجيش الأمريكي الذي يتمتع بقدرة على إبراز قوته في جميع أنحاء العالم على شركائه وحلفائه. إن "البنتاغون" والجيش الأمريكي في حاجة لاستخدام موانئ في بلجيكا وألمانيا، والقواعد الموجودة في اليابان والفلبين، واستخدام المجال الجوي الباكستاني، والوصول إلى قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا، والمرور عبر قناتي بنما والسويس. فالقوة العسكرية الأمريكية لا تتمتع باكتفاء ذاتي بل تعتمد على الآخرين، وبالتالي فإن تنامي العداء للسياسات الأمريكية سيُنفّر شعوب الدول الأخرى، ويزيد من صعوبة دعم حكوماتها للعمليات العسكرية الأمريكية، ناهيك عن المشاركة فيها.

من ناحية أخرى، فإن شبكة التحالفات والشراكات الكثيفة للولايات المتحدة تُمكّنها أيضًا من تحقيق "الردع الموسّع"، الذي يحمي أصدقاء واشنطن من أعدائهم. لكن "ترامب" قد أضعف بالفعل هذا الركن من أركان نظام ما بعد الحرب الباردة. ففي عام 2019، على سبيل المثال، بعد أن هاجم وكلاء إيران منشآت رئيسية لمعالجة النفط في السعودية، لاحظ حلفاء أمريكا أن "ترامب" اختار عدم الرد. فيبدو أن إدارة "ترامب" تعتقد أنه إذا أجبرت واشنطن حلفاءها على الاعتماد على أنفسهم، فإنهم سيتخذون خيارات من شأنها أن تعود بالنفع على الولايات المتحدة، وهذا مستبعد؛ فرغم أن معظم حلفاء أمريكا يمتلكون جيوشًا متفوقة على جيوش خصومهم المحتملين، لكنهم يفتقرون بشكل عام إلى الثقة اللازمة لاستخدامها. فحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا لديهم ثقة ضئيلة جدًا في قوتهم، وإذا تخلت الولايات المتحدة عنهم فمن المرجح أن يقدموا تنازلات مع المعتدين من شأنها الإضرار بمصالحهم ومصالح واشنطن كذلك. وهذا ما فعلته فرنسا وألمانيا بعد غزو روسيا لأوكرانيا عام 2014، ولم تُبدِ إدارة "أوباما" أي رد فعل يُذكر؛ فقد ضغطت القوى الأوروبية على أوكرانيا لقبول ما يُسمى "اتفاقيات مينسك"، التي نصّت رسميًا على منطقة عازلة للاحتلال الروسي على الأراضي الأوكرانية، لكن ذلك لم يُوقف القتال؛ حيث عززت روسيا مواقعها وانتهكت الاتفاقيات وغزت مرة أخرى عام 2022.

وفي السنوات القادمة، قد يُؤدي التعدي الروسي على أراضي دولة عضو في حلف "الناتو" من دول البلطيق، إلى جانب التهديدات باستخدام الأسلحة النووية في حال مقاومة الحلف، إلى تفتيت الغرب. وقد لا ترغب إدارة "ترامب" في استبدال نيويورك بتالين، وقد تنهار فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة أيضًا، وأوروبا المُنهمكة بانعدام الأمن لن تكون حريصة على مساعدة واشنطن في التعامل مع العدوان العسكري والتجاري الصيني، أو المساعدة في تقييد البرنامج النووي الإيراني.

في ظل هذا، يُشكك "ترامب" في استمرار في موثوقية الضمانات الأمنية الأمريكية، غير مكترث بأمن حلفائه المُعاهدين الذين لا يُنفقون ما يعتبره مناسبًا للدفاع عن أنفسهم. كما إن الطريقة المُخزية التي يُقارن بها عدوان روسيا على أوكرانيا بدفاعها البطولي عن سيادتها، قد قوّضت الشعور بالأخلاق الأمريكية الأساسية التي تجذب التعاون من الدول ذات التفكير المُماثل. فإذا كانت سياسات الولايات المتحدة مُنحرفة عن الأخلاق بشكل واضح، لدرجة لا يُمكن تمييزها عن سياسات الصين وروسيا، فقد تختار دول أخرى الوقوف إلى جانب تلك القوى، مُراهنةً على أن سلوكها سيكون أكثر قابلية للتنبؤ على الأقل.

سياسة إدارة "ترامب" تقوم على رهان خاسر

ربما تعتمد إدارة "ترامب" على العداء الذي يشعر به حلفاء الولايات المتحدة تجاه الأيديولوجيات التي تُوجّه خصومها، مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا. ومن هذا المنطلق، حتى لو لم يُعجب شركاء الولايات المتحدة ببعض ممارسات واشنطن، لكنهم سيتمسكون بالولايات المتحدة انطلاقًا من شعورهم بالتضامن الديمقراطي. لكن حلفاء الولايات المتحدة تجاوزوا بسهولة أي اعتراضات أيديولوجية قد تكون لديهم، وواصلوا التعامل التجاري مع روسيا بعد غزو أوكرانيا عام 2014، ومع الصين رغم قمعها لأقلية الإيغور وحملتها القمعية في هونغ كونغ في السنوات الأخيرة.

كما إن إدارة "ترامب" نفسها لا تعتبر الاختلافات الأيديولوجية عائقًا أمام التعاون، فلم يمنع التباين بين القيم الأمريكية والروسية "ترامب" من الوقوف إلى جانب موسكو في حرب أوكرانيا. وقد أكد "ترامب" في أيار/ مايو الماضي أمام تجمع للمستثمرين وقادة سعوديين أن واشنطن، في ظل إدارته، "لن تُلقي عليكم محاضرات عن كيفية العيش أو إدارة شؤونكم الخاصة"؛ وبالتالي فإذا لم تتصرف واشنطن على أساس أن الأيديولوجية مهمة، فلا ينبغي لها أن تتوقع أن الآخرين سيفعلون.

وقد يعتقد "ترامب" وفريقه أيضًا أن التقارب بين القوى الصينية والإيرانية والكورية الشمالية والروسية ضخم، لدرجة أن المقاومة الأوروبية ستكون عديمة الجدوى بدون الثقل الأمريكي. ومن الأفضل، من هذا المنظور، إحياء ممارسة القرن الـ19 للقوى العظمى التي كانت تقسم العالم. ومع هذا، فإن القيام بذلك من شأنه أن يتنازل عن أوروبا لروسيا وآسيا للصين، ما سيشكل خسارة فادحة. إضافةً لذلك، لا يوجد سبب للافتراض بأن مثل هذه التنازلات ستنهي الطموحات الصينية والروسية؛ وخذ، على سبيل المثال، ما توحي به استثمارات بكين الضخمة في أمريكا اللاتينية ومحاولاتها إفساد النظام السياسي الكندي بشأن النوايا الصينية.

تفسير محتمل آخر لنهج إدارة "ترامب" هو أنها ترى معظم أشكال إدارة التحالفات على أنها في أحسن الأحوال تشتيت للانتباه، وعائق عام أمام الفوز في المنافسة مع الصين. وسيكره مسؤولو إدارة "ترامب" هذه المقارنة، لكن هذا الموقف يُمثل استمرارًا لحجة إدارة "بايدن" بأن أهم شيء للولايات المتحدة هو تعزيز قوتها داخليًا؛ امتلاك أفضل اقتصاد وأكثر التقنيات ابتكارًا وأقوى جيش. لكن هذا لن يكون الحال إذا لم يتمكن الآخرون من الوصول إلى السوق الأمريكية، أو إذا اعتبروا التكنولوجيا الأمريكية خطرًا عليهم، أو إذا اعتقدوا أن الجيش الأمريكي لا يوفر لهم أي حماية حقيقية. بالطبع، ينبغي للولايات المتحدة أن تُعزز قوتها، لكن عندما تفعل ذلك دون أن تُفيد الآخرين فسيحاولون حماية أنفسهم والحد من تعرضهم للقوة الأمريكية.

وإذا كان "ترامب" يهدف حقًا لتقوية البلاد خارجيًا من خلال تعزيز قوتها داخليًا، فإنه يفعل ذلك بطريقة غريبة؛ فالرسوم الجمركية غير المدروسة التي فرضتها إدارته تزيد من تقلبات السوق، وتجعل تخطيط الأعمال مستحيلًا عمليًا، والتشريع الجمهوري الذي يدعو إليه "ترامب" قد يُفاقم العجز ويزيد التضخم. إن ارتباط عمالقة التكنولوجيا الأمريكية بهجوم الإدارة على الهيئات الحكومية وسيادة القانون يضر بعلاماتهم التجارية، ويهدد قيمهم السوقية ومعدلات تبنيهم. ووفقًا لمحلل الدفاع، تود هاريسون، فإن اقتراح الميزانية الذي دافع عنه "ترامب" سيؤدي لخفض الإنفاق الدفاعي بمقدار 31.5 مليار دولار عام 2026، مقارنةً بما توقعته إدارة "بايدن" لذلك العام، والذي لم يكن كافيًا لمواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها البلاد، وهذه أجندة للضعف لا للقوة.

سياسة "ترامب" ستُنتج بلدًا "لا يُخشى ولا يُحب"

إن "ترامب" وفريقه يُدمران كل ما يجعل الولايات المتحدة شريكًا جذابًا، لأنهم يعجزون عن تصور مدى سوء نظام مُعادٍ للمصالح الأمريكية. ففي عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت البلاد "لا غنى عنها"، من خلال تحملها مسؤولية أمن وازدهار الدول التي وافقت على اللعب وفقًا للقواعد التي وضعتها واشنطن وطبقتها. وبالتالي، إذا تخلت الولايات المتحدة نفسها عن تلك القواعد والنظام الذي أنشأته، فستصبح قابلة للاستغناء عنها تمامًا.

إن التدمير الذاتي للقوة الأمريكية في سنوات "ترامب" قد يُحيّر مؤرخي المستقبل؛ فخلال حقبة ما بعد الحرب الباردة حققت الولايات المتحدة هيمنة غير مسبوقة، وكان الحفاظ عليها سهلًا وغير مُكلف نسبيًا. وقد ارتكب أسلاف "ترامب" جميعًا في تلك الفترة أخطاءً، بعضها قلل بشكل كبير من نفوذ الولايات المتحدة وساعد خصومها، وحدّ من قدرة واشنطن على حث الدول الأخرى على التعاون أو الامتثال، لكن لم يكن أيٌّ من هؤلاء الأسلاف يقصد مثل هذه النتائج. إن "ترامب" يريد عالمًا لا تُشكّل فيه الولايات المتحدة، رغم ثرائها وقوتها، النظام العالمي لمصلحتها، بل يُفضّل قيادة دولة "تُخشى لا تُحب". لكن نهجه هذا لا يُغذّي أيًّا من هذه المشاعر؛ فإذا استمرّت الولايات المتحدة على النهج الذي بدأه "ترامب"، فإنّها تُخاطر بأن تُصبح أكثر وحشيةً من أن تُحبّ، وأقلّ تأثيرًا من أن تُخاف.

في السنوات القادمة، ستبدأ التحالفات التي استغرقت عقودًا في بنائها تتلاشى، ولن يُضيّع خصوم الولايات المتحدة وقتًا في الاندفاع لاستغلال الفراغ الناتج. وقد ينتظر بعض شركاء واشنطن قليلًا، على أمل أن يعود أصدقاؤهم الأمريكيون إلى رشدهم ويحاولوا إعادة إرساء شيء يُشبه الدور القيادي الأمريكي التقليدي. لكن لا عودة إلى الوراء؛ فقد تضرر إيمانهم وثقتهم بشكل لا يُمكن إصلاحه، ولن ينتظروا طويلًا، حتى لو كانت عودة أمريكا إلى سابق عهدها أقل من استعادة كاملة؛ فقريبًا سيُكملون مسيرتهم، وكذلك بقية العالم.