بين مطرقة واشنطن وسندان طهران: العلاقات الأمريكية العراقية على مفترق طرق

الساعة : 11:05
4 يوليو 2025
بين مطرقة واشنطن وسندان طهران: العلاقات الأمريكية العراقية على مفترق طرق

المصدر: أتلانتيك كاونسل

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

مستقبل قاتم للعلاقات بين الطرفين

بغض النظر عن الصراع الحالي بين "إسرائيل" وإيران وتداعياته، فإن آفاق العلاقات الأمريكية العراقية المستقبلية تبدو قاتمة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى انخفاض تهديد تنظيم "داعش"، والمعارضة العامة للوجود العسكري الأمريكي؛ حيث اتفقت واشنطن وبغداد على تقليص دور القوات الأمريكية في مكافحة التنظيم والانتقال إلى علاقة أمنية جديدة. علاوةً على ذلك، جددت الميليشيات المدعومة من إيران هجماتها ضد القوات الأمريكية بسبب دعم واشنطن للعمليات العسكرية "الإسرائيلية" في غزة عقب السابع من أكتوبر 2023. وما زاد الطين بلة، أن التعبير الشعبي عن المشاعر المناهضة للولايات المتحدة، بسبب عداء العراقيين طويل الأمد تجاه "إسرائيل"، أدى إلى هجمات على الشركات المرتبطة بالولايات المتحدة، ما قلص الاهتمام المنخفض أصلًا بتوسيع العلاقات الاقتصادية. ومع تضاؤل أثر التعاون الأمني وضعف فرص التوسع في قطاعات أخرى، يصعب تصور مستقبل العلاقات الأمريكية العراقية.

لكن بالمقابل، قد تكون المظاهر خادعة؛ ففي نيسان/ أبريل 2024، ووسط اشتداد الحرب في غزة، زار رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، الولايات المتحدة لتشجيع تحسين التعاون الأمني والاقتصادي؛ حيث وقّع اتفاقيات مع شركات نفط أمريكية كبرى ووعدها بمعاملة تفضيلية، لا سيما على الشركات الصينية التي تتطلع لاستغلال موارد النفط العراقية. وإضافةً لتأكيد التزامه بالتعاون الأمني مع الولايات المتحدة، وقّع "السوداني" أيضًا اتفاقيات مع متعاقدي الدفاع الأمريكيين للتدريب والمعدات.

ولعل الأهم من ذلك هو أنه بدأ بالفعل برنامجًا شاملًا لإصلاح قطاع الأمن، يجمع جميع أصحاب المصلحة في قطاع الأمن العراقي، والذي يلعب فيه المستشارون الأمريكيون دورًا بارزًا. ونتيجة لهذه الظروف، يبدو أن العلاقات الأمريكية العراقية على مفترق طرق؛ فقد تنحاز بغداد إلى طهران وتطرد المستشارين الأمريكيين المتبقين، ما سيقلص بشدة (إن لم يكن سينهي) علاقتها مع الولايات المتحدة، أو قد تحفاظ على حيادها، وربما تلعب دورًا في تهدئة الصراع. رغم ذلك، قد تُتاح للولايات المتحدة فرصة لتسهيل جهود العراق لتقليل اعتماده في مجالي الاقتصاد والطاقة على إيران، مع تعزيز قدرته على الصمود في وجه محاولات طهران عرقلة مساعي بغداد لبسط سيادتها الكاملة.

"معضلات" العلاقات الأمريكية العراقية

لطالما اضطرت كل من الولايات المتحدة والعراق إلى موازنة علاقاتهما الثنائية وعلاقاتهما مع إيران؛ فمن جهة واشنطن، استلزم هذا التوازن بناء علاقات أوثق مع بغداد، مع الحفاظ على الردع تجاه إيران. أما بالنسبة للعراق، فقد كان ذلك يعني إيجاد توازن بين شريكين في الصراع، الأمر الذي تطلب مساحة لهما للتعامل مع بغداد دون التعامل مع بعضهما البعض. بدورها، لم تكتفِ إيران بالزوايا المنفصلة، بل استخدمت باستمرار وكلاءها العراقيين، للحد من المساحة التي يمكن للولايات المتحدة التعامل فيها، ساعيةً في النهاية لطرد القوات الأمريكية وتوسيع سيطرتها على الحكومة العراقية.

وبذلك، عطّل تدخل طهران تعافي العراق وأعاق المصالحة السياسية والنمو الاقتصادي؛ فقد ولّدت "مشكلة الأجسام الثلاثة" الناتجة معضلات لكل من العراق والولايات المتحدة؛ إذ إن التقدم في علاقة واحدة يُقوّض الأخرى. فعلى سبيل المثال، فإن هجمات الميليشيات على القوات الأمريكية تضع الولايات المتحدة في موقف، يتعين عليها فيه الاختيار بين الرد أو إثارة معارضة شعبية لوجودها أو عدم القيام بأي شيء، ما يسمح لإيران ووكلائها بمهاجمة القوات الأمريكية دون عقاب. وعندما تختار الولايات المتحدة الرد، يجب على الحكومة العراقية الاختيار بين معاقبة واشنطن بطريقة ما، أو المخاطرة بمساعدة أمنية قيّمة، أو التعامل مع رد فعل شعبي عنيف، غالبًا ما تحشده الميليشيات.

في ظل هذه الظروف، لم تتمكن الولايات المتحدة من التعامل مع العراق إلا حيث تتمتع بميزة نسبية، وتحديدًا في قطاعي الأمن والطاقة. وتكون إيران الطرف الوحيد الذي لا يواجه معضلة في علاقته مع الولايات المتحدة أو العراق؛ فقد يؤدي التدخل العلني في السياسة العراقية لإثارة الاحتجاجات، كما حدث في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. ومع ذلك، عندما فاز القوميون المرتبطون بـ"الصدر" بأغلبية مقاعد البرلمان عام 2021، تمكن تحالف "الفتح" (ائتلاف من الأحزاب السياسية المدعومة من إيران) من منع تشكيل الحكومة، ما دفع "الصدر" لسحب نوابه جميعًا من المجلس التشريعي، وهو ما ترك "الفتح" مسيطرًا لحد كبير. وهذا يدل على مرونة نفوذ إيران في العراق، وكيف أن مصالح بغداد لا تشكل تهديدًا كبيرًا لمصالح طهران.

لكن رغم هذه المرونة، فإن عجز إيران عن الدفاع عن مجالها الجوي، وخسائرها المستمرة لقادة عسكريين رئيسيين وعلماء نوويين، وتهديد المقاومة الشعبية، كل هذا جعل طهران تشعر بالحاجة لتعطيل التعاون الأمريكي العراقي وإقناع بغداد بالتخلي عن الحياد. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي الضغط على العراق من قبل طهران ومصادر محلية، إلى رد فعل مسلح على الانتهاكات "الإسرائيلية" للمجال الجوي العراقي. ورغم أن الرد لن يكون فعالًا على الأرجح، لكنه قد يدفع الميليشيات إلى التغلب على جمودها الحالي وضرب أهداف "إسرائيلية" وأمريكية، هذه المرة دفاعًا عن السيادة العراقية، الأمر الذي من شأنه أن يحشد دعمًا سياسيًا أكبر بكثير من الدفاع عن إيران.

وهذا قد يضغط على بغداد لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه واشنطن أو مواجهة الانهيار؛ وإذا اختارت بغداد، لأي سبب من الأسباب، الخط الأكثر صرامة، فلن يكون أمام الولايات المتحدة خيار سوى التخلي عن معظم برامج التعاون الأمني، إن لم يكن كلها، ما يؤدي فعليًا لإنهاء العلاقات. حتى لو قاومت بغداد الضغط الإيراني، فإن هجمات الميليشيات على القوات الأمريكية ستضع الولايات المتحدة مرة أخرى في تبادل للضربات، وهو احتمال خاسر لواشنطن. فكل ضربة أو ضربة مضادة تخاطر بتصعيد دوامة من الانتقام دون اكتساب أي ميزة استراتيجية. من ناحية أخرى، تكتسب الميليشيات العراقية المدعومة من إيران ميزة استراتيجية بمجرد تحديها؛ فكل استفزاز من شأنه أن يقوض مصداقية الولايات المتحدة ويوتر علاقتها مع بغداد، ويعزز رواية الميليشيات حول المقاومة والشرعية.

حل المعضلة

بالنظر إلى الخيارات التي تواجهها بغداد، يُرجح أن تختار التخلي عن حيادها لدعم إيران ضد "إسرائيل"؛ ففي حين هددت بعض الميليشيات المرتبطة بإيران، مثل "حزب الله" وحركة "النجباء"، بمهاجمة أشخاص ومصالح أمريكية، فإنها تشترط على واشنطن أو حلفائها "وضع أصبع واحد" على المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي. ورغم الزخم الشعبي حول قتال "إسرائيل"، قد تعتقد الميليشيات أنها ستخر كثيرًا من توسيع الصراع، ولا يمكن للهجمات المضادة من قبل "إسرائيل" أن تقتل قادة رئيسيين فحسب، بل يمكنها أيضًا تعطيل عمليات تهريب النفط المربحة التي توفر مزايا كبيرة للأطراف العراقية. فوفقًا لبعض التقديرات، تدر إيران ووكلاؤها العراقيون أكثر من مليار دولار سنويًا من الإيرادات، ويحصل الجميع على حصة منها. وليس تهريب النفط مصدر تمويلهم الوحيد؛ فإضافة إلى اختلاس أموال الحكومة العراقية، استثمروا في الاقتصاد العراقي، ما أدى لتوليد مليارات الدولارات من الإيرادات. ونتيجة لذلك، يبدو أنهم الآن أكثر تركيزًا على حماية هذه المصالح التجارية من الانخراط في قتال مع "إسرائيل" أو الولايات المتحدة.

إن تحركات الحكومة العراقية هذا العام لإجبار ميليشياتها على إلقاء أسلحتها تؤكد هذه النقطة؛ وقد لاحظ وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، أن هذا الحوار لم يكن ليحدث قبل عامين أو ثلاثة أعوام؛ ومع ذلك، فإن عمل الميليشيات خارج الحكومة أقل قبولًا اجتماعيًا بكثير. حتى إن "حسين" عرض رغبة العراق في التوسط في التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، على غرار الدور الذي لعبه في تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران.

ومن غير المرجح أيضًا أن تقترب بغداد بشكل واضح من واشنطن، على الأقل علنًا؛ لكن يمكن أن يمثل النقاش حول وضع القوات الأمريكية في المنطقة فرصة سانحة لتقدم العلاقة. فقد كانت الولايات المتحدة قد خططت لانسحاب قواتها الإقليمية، مع الحفاظ على جهد استشاري، لكن عقب الإطاحة بنظام "الأسد" في سوريا، أشار القادة العراقيون إلى أنهم سيدعمون الولايات المتحدة في إبطاء انسحابها العسكري. ومع ذلك، من المرجح أن تحول المصالح الأمنية العراقية والسياسات الداخلية دون اتخاذ موقف يدعم الولايات المتحدة على حساب إيران. وإن كان من المرجح أن يدعو "السوداني" لتوسيع التعاون الاقتصادي، لكن طالما استمرت العمليات "الإسرائيلية" في غزة ولبنان، فقد يظل الوضع الأمني عائقًا أمام الاستثمارات الغربية الكبيرة، خصوصًا الأمريكية.

في الوقت الحالي، يعني هذا أن أفضل ما يمكن أن تأمله الولايات المتحدة هو العرض الذي قدمه "السوداني" خلال زيارته لواشنطن؛ استمرار الأمن، وتوسيع التعاون في مجال الطاقة. ولاستغلال هذه الفرصة، ينبغي على واشنطن مواصلة جهودها الاستشارية العسكرية وتوسيع المشاركة رفيعة المستوى في قطاع الأمن العراقي. وهذه الجهود مدفوعة بالكامل من قبل العراق؛ لكن، كما هو الحال مع معظم جهود الإصلاح، يتطلب التطبيق الفعال إرادة سياسية، وهو ما قد يعززه التركيز الأمريكي من خلال إشراك قادة العراق.

كما ينبغي على واشنطن تسهيل جهود العراق المستمرة لتنويع مصادر الطاقة، وبالتالي تقليل اعتماده على طهران. فقد أبرم العراق اتفاقيات مع تركمانستان وقطر وعُمان لاستيراد الغاز الطبيعي، ووافقت شركة "توتال إنرجيز" الفرنسية على استثمار عشرة مليارات دولار على مدى أربع سنوات، لتطوير موارد الغاز الطبيعي وزيادة قدرة توليد الكهرباء. كما وقّعت بغداد اتفاقية تسمح بالاندماج في شبكة الكهرباء لدول مجلس التعاون الخليجي، ما قد يوفر 3.94 تيراواط/ساعة سنويًا من الكهرباء، أي ما يقارب 5% من استهلاك العراق السنوي.

كما أكد "السوداني" في اتصال هاتفي مع مستشار الأمن القومي الأمريكي آنذاك، مايك والتز، على اهتمام العراق بمشاركة أكبر من شركات الطاقة الغربية لتسهيل استقلاله في مجال الطاقة. فإذا أصبح العراق مستقلًا في مجال الطاقة عن إيران، ستكون الولايات المتحدة في وضع يسمح لها بإلغاء الإعفاء من العقوبات، الذي يسمح باستيراد الغاز الطبيعي الإيراني دون أن يُشكّل ذلك أي عائق على الشعب العراقي.

مستقبلٌ مُعقّد

إن مستقبل العلاقات الأمريكية العراقية ليس قاتمًا كما قد يبدو للوهلة الأولى، ولا واعدًا كما قد يأمل البعض؛ فنظرًا للديناميكيات المتغيرة بسرعة ستظل العلاقة غير مؤكدة وعرضة للتقلبات وشديدة الحساسية للتطورات الإقليمية. وفي الوقت الذي ما زالت فيه بغداد غير راغبة في التحالف علنًا مع واشنطن على حساب طهران، فقد أظهرت أيضًا ضبطًا للنفس في الرد على الضغوط الإيرانية واستفزازات الميليشيات، ما يدل على استمرار اهتمامها بالحفاظ على علاقة مع الولايات المتحدة. كما تشير مبادرات "السوداني" إلى وجود منطق استراتيجي في الحفاظ على المشاركة الأمريكية، لا سيما في المجالات التي تحتفظ فيها واشنطن بميزة نسبية، مثل التعاون الدفاعي والاستثمار في الطاقة.

بالمقابل، يجب أن تدرك الولايات المتحدة من جانبها أن نفوذها سيعتمد بشكل كبير ليس على وضع القوة، بل على قدرتها على دعم سيادة العراق، ومرونته الاقتصادية وإصلاحه المؤسسي، والتعامل مع هذا الوضع يتطلب نوعًا من الانتهازية البناءة؛ حيث يكون لدى الولايات المتحدة اتصالات كافية مع العراق لتحديد فرص توسيع التعاون والقدرة على التصرف بسرعة. وفي هذا السياق، قد يكون الحفاظ على شراكة هادئة لكن دائمة، ترتكز على المصالح المتبادلة وليس الطموحات الكبرى، هو الطريق الأكثر قابلية للتطبيق للمضي قدمًا.