دراسة أمريكية توجّه ترامب لكيفية استغلال التغيّرات التاريخية في الشرق الأوسط

الساعة : 19:34
26 فبراير 2025
دراسة أمريكية توجّه ترامب لكيفية استغلال التغيّرات التاريخية في الشرق الأوسط

المصدر: فورين أفّيرز

ترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

ملخص الدراسة:

·      يمثل الشرق الأوسط الآن فرصة تاريخية لإدارة "ترامب"، لإعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية، بعد تاريخ طويل من الجهود الدبلوماسية الأمريكية الفاشلة في المنطقة، بدءًا من "بوش" وصولًا إلى "بايدن"، والتي تركت المنطقة أكثر اضطرابًا.

·      رغم الصراعات والاضطرابات المستمرة، فإن أسلوب "ترامب" غير المتوقع قد يمنحه نفوذًا فريدًا مع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، مثل إيران و"إسرائيل" ودول الخليج.

·      تكمن إحدى الفرص الرئيسية أمام "ترامب" في التعامل مع إيران؛ حيث أصبحت في حالة تعتبر الأضعف والأكثر عرضة للضغط منذ عام 1979.

·      تم القضاء على وكلاء إيران مثل "حزب الله" و"حماس"، وتقويض قدراتهما الصاروخية والدفاعية الجوية بسبب الضربات "الإسرائيلية".

·      أزمة إيران الاقتصادية الناجمة عن سوء الإدارة والعقوبات وانخفاض أسعار النفط تزيد من استعداد طهران للتفاوض على اتفاق نووي جديد.

·      يمكن أن يدفع "ترامب" تجاه الحصول على تنازلات من إيران؛ تتضمن فرض قيود على التخصيب النووي والصواريخ الباليستية والتدخل الإقليمي.

·      هناك فرصة أخرى في إنهاء الحرب الطويلة والمدمرة في غزة؛ من خلال وقف إطلاق النار الهش واتفاق تبادل الأسرى الذي تم التوصل إليه مؤخرًا.

·      قد يمهد تمديد وقف إطلاق النار الطريق لاستكمال مسار التطبيع بين "إسرائيل" والدول العربية الرئيسية، مثل السعودية.

·      يمثل الوضع في لبنان فرصة أخرى؛ فقد يسمح النجاح العسكري "الإسرائيلي" الأخير ضد "حزب الله" للبنان باستعادة السيادة والاستقرار.

·      انهيار حكم "الأسد" في سوريا يوفر فرصة للولايات المتحدة للتأثير على إعادة الإعمار والانتقال السياسي، بعد فترة طويلة من عدم الاستقرار؛ فقد يستخدم "ترامب" نفوذ بلاده لرفع العقوبات وتأمين الموارد البديلة، والتوسط في اتفاقيات بين مختلف الجهات الفاعلة في سوريا.

·      إذا تصرف "ترامب" بحزم، فسيمكنه إعادة تشكيل الشرق الأوسط؛ من خلال تقليص نفوذ إيران، وإنهاء الصراع في غزة، وتعزيز التحالفات الإقليمية الرئيسية.

وفيما يلي ترجمة لكامل الدراسة:

فشل متعاقب للإدارات الأمريكية في التعامل مع مشاكل المنطقة

ظل الشرق الأوسط على مدى عقود منطقة تتجه إليها الطموحات الدبلوماسية لتموت في نهاية المطاف؛ فمنذ أن ترك الرئيس الأمريكي، جورج بوش (الأب)، منصبه عقب حرب الخليج، انتهى الأمر بالرؤساء الأمريكيين المتعاقبين في كثير من الأحيان، بعد فترات عابرة من الأمل، إلى ترك المنطقة في حالة أكثر خطورة مما وجدوها عليه. فقد كانت لدى "كلينتون" آمال كبيرة في التوصل لاتفاق سلام تاريخي بين "الإسرائيليين" والفلسطينيين؛ حيث نجح في تقريب الطرفين في "كامب ديفيد" عام 2000، لكن رئاسته انتهت بانهيار المحادثات وبداية الانتفاضة الثانية.

وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، نجح "جورج دبليو بوش" في الإطاحة بنظام "صدام حسين" في العراق باسم "تحويل" المنطقة، ليرى هذا المشروع يتحول إلى مستنقع قتل الآلاف من الأمريكيين وأدى إلى تمكين إيران. بدوره، سعى "باراك أوباما" إلى اغتنام فرصة الربيع العربي عام 2011، ورغم أنه تفاوض على اتفاق نووي مع إيران، إلا أن تطلعاته نحو الديمقراطية والتعاون الإقليمي تهاوت بسبب الانقلاب الدموي في مصر، وصعود "تنظيم الدولة الإسلامية" في العراق، واندلاع حرب أهلية مدمرة في سوريا.

وفي ولايته الأولى، كان "ترامب" يأمل أن يؤدي الانسحاب من الاتفاق النووي الذي عقده "أوباما" وقتل قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، إلى الحد من التهديد الإيراني، لكن عندما ترك منصبه عام 2017 كانت إيران توسع برنامجها النووي وتستخدم وكلاءها لمهاجمة القوات الأمريكية وجيرانها كذلك. أما "بايدن" فقد تجنب مؤخرًا التطلعات الكبرى واضعًا إخفاقات الماضي في الاعتبار وركز على تحقيق الاستقرار في المنطقة، لكنه قضى عامه الأخير في منصبه مستهلكًا في التعامل مع تداعيات هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر 2023، وأهوال الحرب في غزة التي تلت ذلك.

فرص استراتيجية أمام "ترامب" رغم المخاطر

مع وضع هذا التاريخ في الحسبان، قد يبدو من الحماقة أن نتخيل أن الشرق الأوسط اليوم يمثل أي شيء آخر غير مصدر للمتاعب للرئيس الأمريكي الجديد. فالسنوات الثلاثين الماضية أثبتت أن تجاهل الشرق الأوسط أمر مستحيل، وأنه مهما بدا الوضع سيئًا فإنه يمكن أن يزداد سوءًا باستمرار. لكن رغم كل هذه المشاكل والمخاطر التي تواجهها المنطقة، إلا أن أمام "ترامب" في الواقع مجموعة من الفرص، ومن بعض الجوانب قد يكون في وضع جيد للاستفادة منها. وإلى جانب المشهد الاستراتيجي الجديد الذي ورثه، فإن طبيعة "ترامب" غير المتوقعة يمكن أن تمنحه نفوذًا مع إيران و"إسرائيل" ودول الخليج، من بين أطراف أخرى. وقد يستطيع أن يسوّق سياسات للكونغرس، مثل الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما لم يستطع أي رئيس ديمقراطي أن يفعله.

بالمقابل، فإن "ترامب" قادر بطبيعة الحال على أن يزيد من تفاقم مشاكل المنطقة، وقد فعل ذلك بالفعل من خلال اتخاذ قرار بقطع المساعدات الأمريكية الحيوية للمنطقة والدعوة إلى إخلاء غزة والاستيلاء عليها. وسوف يعتمد مصير الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع المقبلة إلى حد كبير على مدى تمكّن "ترامب" من الاستفادة من هذه الفرص الاستراتيجية، أو إن كان سيهدرها بدلًا من ذلك بدوافعه المتهورة.

فرصة تاريخية في ظل ضعف إيران ووكلائها

إن الفرصة الأولى التي ورثها "ترامب" تتمثل في إيران، التي ظلت لعقود في قلب مشاكل الشرق الأوسط، لكن طهران اليوم أصبحت أضعف وربما أكثر عرضة للضغط والاستغلال، مما كانت عليه منذ الثورة الإيرانية عام 1979. فقد تم تقريبًا القضاء عسكريًا على اثنين من وكلائها الرئيسيين، "حزب الله" في لبنان و"حماس" في غزة، فيما أثبت أسطولها من الصواريخ الباليستية، الذي كان لفترة طويلة أداةً ثانية للردع إلى جانب هؤلاء الوكلاء، عدم فعاليته ضد الدفاعات الجوية "الإسرائيلية" التي تدعمها الولايات المتحدة وغيرها من القوى الإقليمية. وإضافة إلى ذلك، لا يحكم سوريا الآن حليف إيران وشريكها الإقليمي الرئيسي "بشار الأسد"، بل تحالف مناهض لإيران حرم طهران من جسرها البري إلى لبنان. كما أثبتت الدفاعات الجوية الإيرانية عدم كفاءتها ضد الضربات الجوية "الإسرائيلية" في خريف عام 2024، حتى إن إيران شعرت أنها ضعيفة للغاية لدرجة أنها لم تحاول الرد. في الوقت نفسه، يتعرض الاقتصاد الإيراني، الذي دمرته سنوات من سوء الإدارة إلى جانب العقوبات الأمريكية والدولية وانخفاض أسعار النفط، لضغوط هائلة وهو بالكاد يشكل الأساس لمعالجة الفجوات الجديدة في قدرات الردع والدفاع.

في ظل هذه الظروف الجديدة، ليس من المستبعد أن يبدأ قادة إيران الإشارة إلى الانفتاح على اتفاق نووي جديد، لأن البدائل لمثل هذه الصفقة بالنسبة لإيران أسوأ من أي وقت مضى. فقد انتُخِب الرئيس "مسعود بزشكيان" عام 2024 على أساس برنامج يهدف لتحسين الاقتصاد، والطريقة الوحيدة الممكنة لتحقيق هذا الهدف هي التوصل لاتفاق دبلوماسي مع الولايات المتحدة وتخفيف العقوبات. ورغم أن المرشد الأعلى، علي خامنئي، المتشدد والمشكك منذ فترة طويلة بالمحادثات، يظل صانع القرار النهائي، لكنه يعرف أن قدرة إيران على ردع الضربات العسكرية ضد برنامجها النووي أو البنية الأساسية للطاقة، التي تعتمد على الوكلاء، والضربات الصاروخية الباليستية ضد "إسرائيل"، والدفاع الجوي المحلي، كل هذا قد تراجع بشكل كبير.

كما يدرك القادة الإيرانيون أن استعداد الولايات المتحدة و"إسرائيل" لشن هجمات قد زاد في ظل جرأة رئيس الوزراء "الإسرائيلي"، بنيامين نتنياهو، وعودة "ترامب" الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، والذي أشار إلى اهتمامه بالتوصل لاتفاق. وقد يؤدي هذا المشهد الاستراتيجي الجديد إلى دفع إيران لوضع المزيد على الطاولة أكثر مما كان متصورًا في السابق؛ فالتنازلات التي لم تكن واقعية في الماضي قد تكون واقعية اليوم. وبالتالي، قد تستطيع إدارة "ترامب" فرض قيود صارمة، بدون تاريخ انتهاء صلاحية، على مستويات التخصيب النووي، وقيود على الصواريخ الباليستية، وحتى قيود على التدخل الإقليمي الإيراني (بما أن وكلاء طهران ضعفوا إلى حد كبير).

من جهة أخرى، فإن الاتفاق الجديد قد يمنع حتى برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني المحلي من خلال السماح لإيران بالوصول إلى بنك الوقود الدولي؛ وهو  ما سيسمح لطهران بالادعاء أنها حافظت على حقها في الاستفادة من إنتاج الطاقة النووية المدنية، كما يسمح لـ"ترامب" والحكومة "الإسرائيلية" بالقول إنهما حرمتا إيران من مواصلة التخصيب. وإذا افترضنا أن هناك حدودًا للتنازلات الإيرانية، فإن "ترامب" قد يتجاوز حدوده بسهولة، أو حتى يسعى لتغيير النظام في طهران، لكن جاذبية الاتفاق الذي يمنع إيران بشكل واضح من تطوير سلاح نووي ويحد من نفوذها الإقليمي لابد أن تكون واضحة. والواقع أن الجمع بين ضعف إيران والتهديد المتزايد من جانب الولايات المتحدة باستخدام القوة يجعل الاتفاق أكثر واقعية من أي وقت مضى. وإذا تمكن "ترامب" من التفاوض على مثل هذا الاتفاق، فقد يتفاخر بالحصول على "صفقة أفضل" من تلك التي توصل إليها "أوباما"، ثم يسوّق هذه الصفقة للكونغرس.

فرصة لإنهاء حرب غزة ومواصلة مشروع التطبيع

إن الفرصة الثانية أمام "ترامب" في المنطقة هي إنهاء الحرب في غزة، التي تمثل أكبر انتكاسة للسلام والاستقرار في المنطقة منذ حرب العراق، وبدء العملية الطويلة المتمثلة في استقرار "اليوم التالي". فمنذ الهجوم المروع الذي شنته "حماس" على "إسرائيل" في السابع من أكتوبر 2023، ورد الفعل "الإسرائيلي" اللاحق، كان الوضع في غزة مأساة لا يمكن تفسيرها. لكن وقف إطلاق النار واتفاق الرهائن الذي تم التوصل إليه في الـ15 من كانون الثاني/ يناير الماضي، بعد أشهر عديدة من الجهود الفاشلة وبمساعدة فريق "ترامب"، يوفر مسارًا محتملًا لإنهاء الحرب أخيرًا. رغم ذلك، فإن المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار محدودة في الوقت والنطاق، ومن غير المضمون أن تستمر، كما إن الوصول إلى المرحلة الثانية سيتطلب اتخاذ قرارات أكثر صعوبة بشأن إطلاق سراح الأسرى ومصير "حماس" في نهاية المطاف.

في الوقت ذاته، كانت صور الأسرى "الإسرائيليين" المطلق سراحهم والذين وصلوا لمرحلة شديدة من الهزال، بمثابة تذكير صارخ لـ"إسرائيل" بضرورة التوصل لاتفاق بشأن المرحلة الثانية، قبل أن يموت مزيد منهم. كما يجب على "حماس" أن تدرك أن الاتفاق لن ينتهي بشكل جيد بالنسبة للحركة؛ فقد هددها "ترامب" بـ"الجحيم" إذا رفضت الصفقة، وتعرف الحركة أن "فرسانها"، "حزب الله" وإيران، لن يدخلوا المعركة مجددًا، وهو السبب الرئيسي وراء موافقتها على وقف إطلاق النار وصفقة الأسرى في المقام الأول.

وإذا كان بوسع "ترامب" المساعدة في تمديد الاتفاق أو حتى منع تجدد القتال، فستكون أمامه فرصة لبدء وضع اللبنات الأساسية لتحقيق قدر ضئيل على الأقل من الاستقرار في غزة والضفة الغربية، وعلى المدى الطويل لاتفاقية "التطبيع" التي طال انتظارها بين "إسرائيل" والسعودية، وتمديد "اتفاقيات أبراهام" التي تفاوض عليها في ولايته الأولى. وتتطلب هذه الرؤية التاريخية ليس فقط إنهاء الحرب في غزة، لكن أيضًا التزامًا "إسرائيليًا" بمسار الاعتراف بدولة فلسطينية، ومن المؤكد أن مثل هذا الالتزام يصعب تصوره في ظل وجود الحكومة "الإسرائيلية" الحالية، لكنه قد يكون قابلًا للتصور تحت ضغط من "ترامب"، الذي سيكون في وضع فريد من نوعه للتأثير على "إسرائيل"، خاصةً إذا رأى أن ذلك سيساعده في مساره إلى "جائزة نوبل للسلام".

في هذا الملف أيضًا، هناك أهداف أكثر واقعية ينبغي على "ترامب" أن يحرز تقدمًا فيها إذا كان راغبًا؛ وهي المطالبة بإصلاح حقيقي للسلطة الفلسطينية مع رحيل الرئيس "محمود عباس" البالغ من العمر 89 عامًا عن المشهد. وهذه الجهود ستساعد في إقناع "إسرائيل" بقبول دور للسلطة الفلسطينية في إدارة غزة بعد الحرب، وهو الدور الذي قد تتسامح معه بقايا "حماس" كبديل عن مزيد من التدمير، وإقناع دول الخليج التي تحرص على الإبقاء على علاقة جيدة مع الإدارة، بتقديم الدعم السياسي والأموال لإعادة الإعمار، وربما قوات أمن لدعم اتفاق السلام. رغم ذلك، ستظل المشاكل والتحديات هائلة حتى إن تم إحراز مثل هذا التقدم، لكنها ستتضاءل مقارنة بالدمار والانقسامات والمعاناة التي سبقت اتفاق وقف إطلاق النار، وسوف يحصل "ترامب" على هذا الفضل ويستحقه.

الطريق ممهد لتقوية الدولة اللبنانية وإضعاف "حزب الله"

لقد ورث "ترامب" فرصًا في لبنان أيضًا؛ فبعد أن بدت آفاقها قاتمة حتى قبل الحرب بين "إسرائيل" و"حماس"، فقد ساءت بشكل أكبر عندما وجهت "إسرائيل" قواتها ضد "حزب الله"، ما أدى إلى سقوط آلاف الضحايا وعشرات الآلاف من المدنيين النازحين. وقد عانى لبنان على مدى عقود من سيطرة "حزب الله"، إضافة إلى لجوء أكثر من مليون سوري هربًا من الحرب في بلادهم منذ عام 2011، لكن مع إضعاف "حزب الله" أتيحت للبلاد أخيرًا فرصة لتحرير نفسها من قبضة إيران وإقامة دولة أكثر وظيفية وسيادة.

وتنبع هذه الفرصة من الخسائر الهائلة التي تكبدها الحزب منذ أن ارتكب خطأ خوض الحرب مع "إسرائيل"، عقب هجمات السابع من أكتوبر. ورغم أن بعض "الإسرائيليين" أيدوا إطلاق عملية عسكرية كبرى ضد الحزب منذ بداية الحرب، لكن "نتنياهو" امتنع في البداية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ضغوط إدارة "بايدن" لتجنب التصعيد الإقليمي. لكن مع استمرار هجمات الحزب على شمال "إسرائيل" ومنع عشرات آلاف النازحين "الإسرائيليين" من العودة إلى ديارهم، فقدت "إسرائيل" صبرها. وفي الأشهر الأخيرة من عام 2024، أدت الضربات العسكرية "الإسرائيلية" على الحزب واغتيال مسؤوليه، بمن فيهم زعيمه الأعلى، حسن نصر الله، والغارات الجوية المتواصلة ضد البنية التحتية العسكرية للحزب، إلى تدمير الحزب سياسيًا وعسكريًا.

وبحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وخوفًا من مزيد من الخسائر ورؤية أن إيران ليست في وضع يسمح لها بالدفاع عنه، وافق الحزب على وقف إطلاق النار مع "إسرائيل" متنازلًا عن شرطه السابق بإنهاء الحرب في غزة، كما سحب قواته إلى شمال نهر الليطاني وسمح لآلاف العناصر من الجيش اللبناني بالانتشار في منطقة عازلة في الجنوب. وقد مهّد هذا الاتفاق الطريق لتحقيق اختراق في السياسة اللبنانية، مع اختيار رئيس جديد هو قائد الجيش السابق "جوزيف عون"، ورئيس الوزراء، نواف سلام، وكلاهما ملتزم بتحسين الحكم وضمان استقلال الدولة اللبنانية.

وإن كان الحزب سيظل يمارس نفوذًا على السياسة اللبنانية، لكن هذا النفوذ قد تقلص إلى حد كبير، خاصة مع تضرر قدرة إيران على إعادة إمداد الحزب بشدة بسبب خسارتها لسوريا. وقد تحظى الحكومة اللبنانية الجديدة بالدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الدولي الذي تحتاجه لتحقيق النجاح، بما في ذلك من الولايات المتحدة. وإذا تمكن "ترامب" من التغلب على غرائزه ضد المساعدات الأجنبية، فستتاح له الفرصة لمساعدة الحكومة والجيش اللبنانيين بالوسائل المناسبة والثقة اللازمة لتهميش "حزب الله" بشكل أكبر والحد من نفوذ إيران.

فرصة لبناء سوريا جديدة بعد سقوط نظام "الأسد"

أخيرًا، فإن الفرصة الأفضل لـ"ترامب" تتمثل في سوريا، التي ربما كانت المنطقة الأكثر زعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط على مدى العقد ونصف الماضيين. فبعد سنوات من محاولة عزل الدكتاتور "بشار الأسد" أو الإطاحة به، وبحلول عام 2020 كانت الولايات المتحدة والعديد من حلفائها العرب والأوروبيين قد تجاوزوا لحد كبير الواقع المروع المتمثل في حكم "الأسد" الدائم. لكن مع تركيز انتباه العالم على الوضع في غزة، وإضعاف إيران بسبب صراعها مع "إسرائيل" وروسيا بسبب صراعها مع أوكرانيا، اغتنمت المعارضة السورية بقيادة "هيئة تحرير الشام" الفرصة للتحرك. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تشن "الهيئة" وحلفاؤها هجومهم العسكري فور توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين "حزب الله" و"إسرائيل"، والذي ضمن عدم قدوم عناصر الحزب لإنقاذ "الأسد" كما فعلوا عام 2011، عندما كان "الأسد" على وشك الانهيار آخر مرة.

لكن ما هو أكثر إثارة للدهشة أن "هيئة تحرير الشام"، التي لا تزال الولايات المتحدة تصنفها كمنظمة إرهابية، أعلنت وبدأت التصرف بناءً على التزامها بضمان حقوق الإنسان واحترام الأقليات والنأي بنفسها عن ماضيها الإرهابي. وفجأة اختفى النظام السوري، الذي كان الحليف الرئيسي لإيران وممراً للأسلحة إلى "حزب الله" ومصدرًا رئيسيًا للمخدرات وداعمًا للإرهاب، وحلت محله فرصة لتشكيل سوريا جديدة، ولا يزال يتعين على الرئيس الجديد، أحمد الشرع، أن يثبت التزامه بسوريا الأفضل.

إن السياسة الأمريكية لن تكون المتغير الرئيسي الذي يحدد النجاح أو الفشل في سوريا، لكن واشنطن قادرة على إحداث الفارق؛ فقد يرفع "ترامب"، على سبيل المثال، تصنيف الإرهاب مقابل الحكم الرشيد والتعاون في تحقيق أهداف مكافحة الإرهاب، بما في ذلك الوجود العسكري الأمريكي المتفاوض عليه في الشمال الشرقي للمساعدة في منع عودة ظهور "تنظيم الدولة الإسلامية". وقد يرفع ترامب العقوبات أيضًا ويقدم المساعدة الاقتصادية إذا وافقت سوريا على منع روسيا من الوصول إلى القواعد البحرية، وقد يساعد البلاد في العثور على إمدادات الحبوب والنفط لتحل محل المصادر الروسية والإيرانية المفقودة. كما قد يستخدم "ترامب" نفوذ الولايات المتحدة مع تركيا وشركاء واشنطن السوريين الأكراد، للتوسط في اتفاق سياسي بينهم وبين النظام الجديد في دمشق؛ وهذه فرص لم تتح للولايات المتحدة منذ عقود وينبغي أن يغتنمها "ترامب".

هل يغتنم "ترامب" الفرص وينجح فيما فشل فيه أسلافه؟

لا ينبغي التقليل من شأن التحديات والمخاطر التي لا تزال تلوح في الأفق في جميع أنحاء الشرق الأوسط؛ فالحكومات الضعيفة وغير الفعّالة، والتنافسات الدينية والعرقية وبين الدول العميقة، وتعدد الجهات الفاعلة السيئة، إضافةً إلى عواقب الحرب الرهيبة في غزة التي قد لا تنتهي قريبًا، سوف تستمر في عرقلة التقدم نحو السلام والاستقرار. لكن بالمقابل، سيكون من الخطأ الفادح تجاهل الفرص التاريخية التي يقدمها المشهد الاستراتيجي الجديد، والتي كانت تبدو بعيدة المنال قبل عام أو حتى بضعة أشهر فقط. ولا شك أن "ترامب" لن يرغب في شيء أكثر من النجاح فيما فشل فيه العديد من أسلافه، وينبغي لأي شخص يهتم بالمنطقة أن يأمل في أن ينجح.