ترجمات – فريق الترجمة بمركز صدارة للمعلومات والاستشارات
أعدت الباحثتان "أسلي أيدينتاشباش" الخبيرة بالشأن التركي، و"سينزيا بيانكو" التي تعمل على التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية في منطقة الخليج، دراسة في آذار/مارس، عن التنافس التركي الإماراتي وتأثيره في إعادة تشكيل الشرق الأوسط. وقدمت الدراسة توصيات للاتحاد الأوروبي للاستفادة من هذا التنافس وتجنب تأثيراته السلبية على دول الاتحاد.
تلخيص
انخرطت كل من تركيا والإمارات في نزاع استمر عقدًا من الزمن، أدى إلى إعادة تشكيل النظام الجيوسياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ينظر الطرفان لبعضهما على أنهما في تنافس وجودي، ويشنان سلسلة حروب بالوكالة بين القرن الأفريقي وشرق البحر المتوسط.
بدأ التنافس بينهما أيضًا في أروقة واشنطن وبروكسل، وعبر الخطاب الإعلامي العالمي وصناعة الطاقة، ومؤخرًا في الموانئ وأعالي البحار.
يجب على أوروبا أن تتجنب الانجرار إلى هذا الصراع على السلطة الذي يهدف لإعادة تعريف الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
بدلًا من استخدام الإمارات للرد على تركيا أو العكس، يجب على أوروبا أن تتبنى استراتيجيتها الخاصة بشأن التنافس بينهما.
ينبغي على أوروبا إنشاء آلية حلف شمال الأطلسي لحل النزاعات، والمضي قدمًا في العملية السياسية في ليبيا، وتصميم إطار عمل جديد بنّاء، لعزل العلاقات الأوروبية التركية عن التنافس.
مقدمة
رغم الفرق الكبير في الحجم أو عدد السكان أو القدرة العسكرية، تخوض تركيا والإمارات نزاعًا استمر عقدًا من الزمن، سيعيد تشكيل النظام الجيوسياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ حيث لا تقتصر المواجهة على تغذية عدم الاستقرار في المناطق ذات التأثير المباشر على المصالح الأوروبية، مثل ليبيا والقرن الأفريقي فحسب، بل تتسرب أيضًا إلى أوروبا نفسها في شرق البحر المتوسط. كما يؤدي هذا التنافس إلى تعميق الانقسامات في أوروبا، ما يجعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء تبني سياسة متماسكة بشأن البحر المتوسط.
وتتوق كلا الدولتين لسرد روايات متنافسة حول الطابع الأيديولوجي المفترض للصراع، وإيجاد منصات مختلفة لتقديم رؤيتيهما المتنافسة للمنطقة، لكن هذه الجهود تُخفي الطبيعة الحقيقية للنزاع. فبينما كان البلدان على طرفي نقيض في كل الصراعات الإقليمية تقريبًا منذ عام 2011، إلا أنه مازال محل جدل إلى أي مدى تشكل الأيديولوجية عنصر التنافس بينهما؛ الاعتدال مقابل الإسلامية من طرف أبو ظبي، والديمقراطية التنافسية مقابل الملكية الاستبدادية من قبل أنقرة. وإن كان النزاع معقدًا، إلا أنه في جوهره ينطوي في المقام الأول على صراع لتوطيد النظام الداخلي والنفوذ الإقليمي.
من جانبها، أظهرت تركيا تقاربًا تجاه أحزاب "الإخوان المسلمين" في الماضي، ورغم ذلك، فمنذ فشل الانتفاضات العربية عام 2011، ومنذ عام 2016، كانت أنقرة تتبع بشكل خاص مسارًا قوميًا وانتقاميًا في سياستها الخارجية. فقد هدفت هذه السياسة إلى حد كبير لتعزيز الدعم المحلي للرئيس، رجب طيب أردوغان، لكنها اتسمت أيضًا برغبة صريحة في القيادة الإقليمية، ولا يتعلق الأمر بانتشار الإسلام السياسي في حد ذاته. في غضون ذلك، قدمت أبو ظبي نفسها على أنها حاملة شعلة الاعتدال ضد القوى الإسلامية، ومع هذا، تركزت استراتيجيتها على احتواء ومواجهة تركيا الحازمة، التي تعتبرها تهديدًا لنفوذها في المنطقة.
كما انخرطت الدولتان في سلسلة من الصراعات السياسية والعسكرية بالوكالة، في القرن الأفريقي وشرق المتوسط. علاوةً على ذلك، فإن التنافس بينهما يدور في أروقة واشنطن وبروكسل، والخطاب الإعلامي العالمي، وصناعة الطاقة، ومؤخرًا في الموانئ وأعالي البحار.
ومن المفارقات أن القادة الأتراك والإماراتيين استفادوا سياسيًا من المواجهة واستغلوها في تعزيز مواقفهم المحلية والدولية؛ فبالنسبة للإمارات، فقد فتحت مواجهة تركيا الباب أمام تحالفات جديدة مع الجهات الغربية، بما في ذلك الدول الأوروبية مثل فرنسا واليونان، وعززت موقعها في واشنطن. أما بالنسبة لأنقرة، فإن تصويرها للإمارات على أنها عازمة على تقويض "أردوغان" وفّر مادةً للرواية الرسمية القائلة إن القوى الخارجية تحاول تخريب تركيا الصاعدة، وهو موضوع رئيسي في تفسيرات القادة الأتراك لأهداف السياسة الخارجية للناخبين.
وبغض النظر عن طابعه الأيديولوجي، فقد أضر الخلاف التركي الإماراتي بأوروبا؛ حيث أدى إلى تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي وتقسيم الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي يحاول فيه إعادة تموضعه في شرق أوسط متغير. على سبيل المثال، ساعد الصراع الليبي في تحويل التنافس بين تركيا والإمارات إلى أقرب حدود أوروبا الجنوبية. ففي ظل تغذية بلدان عديدة للحرب الليبية، دعمت فرنسا القوات التي ترعاها الإمارات بقيادة الجنرال "خليفة حفتر"، وتحالفت إيطاليا مع تركيا من خلال دعم حكومة الوفاق الوطني. وبالمثل، ومن خلال تقديم دعم سياسي وعسكري قوي لقبرص واليونان في نزاعهما مع تركيا حول الحدود البحرية شرق المتوسط، أشعلت الإمارات الوضع المتقلب بالفعل واستفادت من العداء بين باريس وأنقرة، ما جعل من شبه المستحيل بالنسبة للاتحاد الأوروبي تبني سياسة مشتركة حول موقف تركيا الحازم. كما أثّرت ديناميكيات الصراع هذه على "الناتو" أيضًا؛ فقد منع فيتو تركيا المنظمة من الانخراط في تعاون أوثق مع الإمارات، ومن ثمّ تعزيز دورها في الخليج.
وتتتبع هذه الورقة أصول الصراع التركي الإماراتي، وتناقش كيف يمكن للاتحاد الأوروبي منع هذا الصراع من زعزعة الأمن الأوروبي والسياسة الخارجية. إذ لا ينبغي للأوروبيين أن يسمحوا لأنفسهم بالوقوع في دوامة هذا الخلاف الإقليمي، ويجب أن يحددوا مصالحهم المشتركة. وحتى الآن، لم تتمكن أوروبا من تحديد أو حماية هذه المصالح في الصراعات المجاورة التي وفرت ساحة للتنافس التركي الإماراتي، مثل تلك الموجودة في ليبيا وسوريا وشرق المتوسط. كما يجب على أوروبا تطوير أفكار لاحتواء وإدارة الآثار غير المباشرة للصراع؛ فبينما يعتبر الحفاظ على علاقة بناءة ومستقرة نسبيًا مع تركيا ضرورة استراتيجية لأوروبا، لأسباب تتعلق بسياسة الهجرة والتجارة، فمن المفترض أيضًا أن تظل الإمارات لاعبًا حاسمًا في البحر المتوسط والمنطقة الأوسع، وهو أمر يدعو إلى مشاركة أوروبية قوية، أي إن أوروبا يجب أن تظل على مسافة متساوية بين البلدين.
وقد تقرر كل من تركيا والإمارات يومًا ما السعي لانفراجة، أو على الأقل تخفيف حدة العداء العلني، في محاولة لبناء تحالفات جديدة أو، في حالة أنقرة، الخروج من العزلة الإقليمية. لكن أوروبا لا تستطيع أن تنتظر حتى يتصالح البلدان قبل أن تحدد مسارها الخاص في جوارها؛ إذ يجب أن تستعد بشكل استباقي لاستمرار المنافسة. كما أنه ليس من مصلحة الاتحاد الأوروبي أو الدول الأعضاء فيه أن يتصاعد الصراع عبر الشرق الأوسط وفي ساحته الخلفية؛ فقد لا يكون الأوروبيون قادرين على إيجاد حل للمواجهة التركية الإماراتية، لكن يمكنهم إيجاد طرق لتخفيف وإدارة واحتواء التنافس وآثاره المتتالية، وبالتالي منع النزاعات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا من أن تتفاقم وتزيد حدتها جراء التنافس، كما يحدث في جميع أنحاء المنطقة.
الجغرافيا السياسية البحرية (الجيوساسة البحرية)
سيظل البحر المتوسط نقطة محورية في المواجهة الجيوسياسية بين أنقرة وأبو ظبي، نظرًا لأن المجال البحري يمكن أن يصبح بسهولة المسرح الكبير التالي للصراع بين الجانبين. وبينما تعيد تركيا توازن خطابها الجيوسياسي بعيدًا عن الإسلاموية ونحو القومية المفرطة، يعمل خصومها الإقليميون على التكيّف. على سبيل المثال، فإن الحسابات الاستراتيجية والخطاب في الإمارات الآن، تفسر بشكل روتيني استراتيجية تركيا "Mavı Vatan" (الوطن الأزرق)، وهو مفهوم قومي لا تملك فيه أنقرة، المحاطة بتحالف معادٍ، خيارًا سوى أن تصبح قوة بحرية مهيمنة، بينما لدى الإمارات خطتها الخاصة لتصبح لاعبًا بحريًا عالميًا.
فخلال العقود الأخيرة، استثمرت الإمارات بكثافة لتصبح مركزًا عالميًا للتجارة البحرية والبنية التحتية؛ فـ"موانئ دبي العالمية" (DP World) هي الآن شركة عالمية رائدة في إدارة الموانئ وتطوير البنية التحتية. ومع أنها تعتبر شركة خاصة مقرها دبي وتحركها مصالح تجارية، إلا أن "موانئ دبي العالمية" وقّعت صفقات يمكن أن تصبح قنوات لتعزيز العلاقات السياسية في الإمارات، كما أن الشركة أجرت في أحيان كثيرة عمليات تتداخل مع السياسة الخارجية الإماراتية. وتتمتع الشركة متعددة الجنسيات الآن بامتياز الوصول إلى المرافق الساحلية، في جنوب اليمن وإريتريا والصومال والسودان ومصر وليبيا وقبرص وأماكن أخرى. وفي العديد من هذه المواقع، تحركت الإمارات بوضوح كبديل لتركيا؛ حيث أخرجت أبو ظبي المفاوضات بين أنقرة والخرطوم عن مسارها لتطوير وتشغيل ميناء جزيرة سواكن على البحر الأحمر.
وقد تعزز الإمارات موقع "موانئ دبي العالمية" في شرق المتوسط خارج المحطة القبرصية في ليماسول، من خلال الحصول على امتياز الوصول إلى المزيد من الأصول الساحلية المحلية، ما سيسمح لأبو ظبي بإنشاء "سلسلة من اللآلئ" تمتد من ميناء جبل علي في دبي إلى قلب أوروبا، متجاوزةً تركيا.
بالمقابل، وبالنسبة لدولة بحجمها، تتخلف تركيا عن أقرانها في المنافسة الجيوسياسية البحرية؛ ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن قطاعها الخاص مستقل ولم يتم إدراجه ضمن أهداف السياسة الخارجية للحكومة. ومع ذلك، اتفقت تركيا وإيطاليا عام 2019 على تشكيل شبكة نقل تخترق وسط المتوسط، ما يخلق قوسًا من الترابط التجاري من المغرب العربي إلى البحر الأسود الأوسع، كما قال عالما السياسة، ديميتار بشيف، وميشيل تانشوم. وقد قرّب هذا كلًا من تركيا وإيطاليا من الصراع الليبي، خاصة بعد الاستثمار التركي الكبير في ميناء تارانتو، على الطرف الجنوبي لإيطاليا، الذي أدى إلى إنشاء ممر تجاري رئيسي بين تركيا وإيطاليا وأفريقيا وفتح بوابة جديدة إلى أوروبا.
إلى ذلك، فإن تصاعد التنافس بين تركيا والإمارات حول القضايا البحرية من شأنه أن يزيد التوتر السياسي بين الجانبين في شرق المتوسط، وهو ما قد يعزز فكرة أن الجوار الجنوبي لأوروبا يعتبر مسرحًا يمكن أن تنافح فيه أنقرة وأبو ظبي بعضهما البعض، بغض النظر عن تأثير ذلك على الاستقرار.
الحرب العالمية على النفوذ
مع اشتداد المنافسة بين تركيا والإمارات، انخرط الجانبان علانيةً في حرب دعائية؛ حيث تتصارعان من أجل الدعم الشعبي في الدول العربية، ومن أجل الدعم السياسي من قبل اللاعبين الدوليين. وإلى حد كبير تفوز الإمارات في هذا الصراع، بسبب آلة العلاقات العامة الفعالة، والغضب الدولي واسع النطاق من تركيا بشأن مجموعة من القضايا. ونظرًا لأن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا وقبرص واليونان، شعرت بالتهديد من تصرفات تركيا الأحادية وخطابها العدواني، فقد مرت جهود الإمارات لإقحام نفسها في نزاع أوروبي دون ملاحظة كبيرة.
ولطالما وصفت الإمارات وسائل الإعلام القطرية والتركية، مثل قناة "الجزيرة" وقناة "TRT"، بأنها أدوات للحكومات الاستبدادية المصممة لنشر الدعاية الإسلامية وزعزعة استقرار الأنظمة القائمة. وتبعًا لرؤية أبو ظبي، فإن الخلافات بين الأحزاب الإسلامية التي تباينت بين طيف سياسي واسع كانت غير ذات صلة أو غير مهمة، وكانت الجماعات الإسلامية أو الأحزاب السياسية المدعومة من تركيا وقطر تشكل تهديدًا وجوديًا لاستقرار المنطقة، حتى عندما بدت أنها تتبنى سياسة برلمانية، وقد كان لهذه الرسالة صدى في باريس أكثر من أي عاصمة أوروبية أخرى.
ومع تدهور صورة تركيا بسبب "تراجعها الديمقراطي"، اشتعلت جهود الإمارات لإعادة تسمية نفسها كقوة حديثة ورائدة عربية في استكشاف الفضاء في الغرب. فقد صورت أبو ظبي حملتها لتعزيز "التسامح"، التي يمكن وصفها بدقة أكثر بأنها "التعددية الدينية"، على أنها معارضة مباشرة لجبهة إسلامية تمثل تقليدًا طويلًا من "الظلامية الدينية". ومن خلال استضافة "البابا فرانسيس" وبناء كنيس ضخم عام 2019، اعتنقت الإمارات المسيحية واليهودية قبل أن تحتضن "إسرائيل" لأسباب جيوسياسية وجيواقتصادية. وغالبًا ما قارن الإماراتيون هذه التحركات بخطاب بعض الإسلاميين تجاه غير المسلمين، مستخدمين ذلك كأحد العناصر الرئيسية في حجتهم بأن جماعة "الإخوان المسلمين" هي "البوابة" لتطرف القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية".
كما روجت الإمارات لهذه الرسائل نفسها لعقد من الزمن، من خلال جهود الضغط المكثفة في أوروبا والولايات المتحدة؛ فمنذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، دفعت شركات الضغط العاملة في الإمارات المشرعين الأمريكيين للموافقة على قانون "الحماية ضد الصراع مع تركيا"، الذي أقره مجلس النواب، والذي يدعو لفرض عقوبات ضد الدولة و"أردوغان". كما ضغطت الإمارات على الولايات المتحدة لمعاقبة تركيا باستخدام قانون "مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات"، ردًا على شراء أنقرة منظومة الدفاع الجوي الروسية "S-400"، وقد أعلنت إدارة ترامب في كانون الأول/ ديسمبر 2020 أنها فعلت ذلك.
أثناء ذلك، وفي تحريض الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه للضغط على تركيا، ركّزت الإمارات على الرسالة المعادية للإسلاميين. وقد قَبل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على وجه الخصوص النسخة الإماراتية من الانقسام داخل العالم الإسلامي، معتبرًا تركيا قوة تروّج لوجهات نظر ومنظمات مناهضة للعلمانية داخل أوروبا. وأقامت فرنسا علاقات سياسية ودبلوماسية أوثق مع الإمارات، غالبًا ما كانت على حساب من هم في صف تركيا، وتبنت موقفًا مشابهًا للإمارات في ليبيا وشرق المتوسط. وفي عام 2020، دخل "أردوغان" و"ماكرون" في عدة خلافات دبلوماسية، تصاعدت إلى مواجهة بحرية بين السفن البحرية التركية والفرنسية في البحر المتوسط.
تأثير "بايدن" ومستقبل التنافس
لا شك أن وصول إدارة جديدة في واشنطن سيخفف من حدة التنافس التركي الإماراتي؛ ففي الواقع وقبل فترة وجيزة من تولي "بايدن" منصبه، قامت كل من السعودية وقطر بتطبيع علاقتهما وإنهاء الأزمة التي استمرت ثلاث سنوات وجعلت الدولة الخليجية الأصغر أقرب إلى تركيا، كما تبع ذلك ذوبان الجليد في العلاقات بين المملكة وتركيا ولأول مرة في ذلك التنافس.
إن تركيز "بايدن" على الدبلوماسية وعدم رغبته في دعم ممالك الخليج بشكل لا لبس فيه في صراعاتهم في الشرق الأوسط، تسبب بالفعل في دفع القوى الإقليمية لتعديل سياساتها. وبحسب أحد كبار المفكرين الإماراتيين، فإن "اسم لعبة 2021 هو خفض التصعيد"؛ فمن جهتها، تعمل أبو ظبي الآن على الحفاظ على علاقتها القوية مع واشنطن، حرصًا على أن تظل شريكًا إقليميًا وثيقًا للولايات المتحدة. وهو ما يتطلب من الإمارات أن تتراجع عن موقفها الثابت في الخطوط الأمامية للصراعات، (مثل تلك الموجودة في ليبيا واليمن)، وأن تزيد من حدة خطابها بشأن الاعتدال، وتعزز أوراق اعتمادها كوسيط، بما في ذلك من خلال دعم الدبلوماسية الأمريكية مع إيران. إلا أنه لا يزال من غير الواضح إذا كانت هذه ستكون مجرد خطوة تكتيكية ومؤقتة.
توصيات لأوروبا
رغم الهدوء الحالي في الصراع التركي الإماراتي، إلا أن هناك فرصة قوية لتلاشي تأثير "بايدن"؛ حيث سيشتعل التنافس في نهاية المطاف في ليبيا وسوريا وشرق المتوسط والقرن الأفريقي. وعليه، فمن المهم لأوروبا أن تتجنب الانجرار إلى المنافسة أو أن تتضرر من آثارها اللاحقة؛ فقد فشل الأوروبيون في القيام بذلك في كلا الأمرين في السنوات القليلة الماضية، حيث شكلت دول مثل فرنسا وقبرص تحالفًا مع الإمارات ليكون جبهة مناهضة لتركيا. وقد أدى ذلك إلى تسميم السياسة الداخلية للاتحاد الأوروبي، وخلق انقسامات بين دوله، وأعاق قدرته على تبني سياسات متماسكة تجاه تركيا.
فلم يكن حادثًا صغيرًا عندما تصادمت القوتين البحريتين التابعتين لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، فرنسا وتركيا، في الصيف الماضي بسبب مزاعمهما المتنافسة شرق المتوسط. وتُظهر هذه الحادثة والجدل الدائر حول تركيا داخل المجلس الأوروبي، كيف أضر التنافس التركي الإماراتي بمصالح أوروبا. فقد أدى التوافق الأوروبي مع الإمارات إلى زيادة التوترات بين فرنسا واليونان وقبرص من جهة، وتركيا من جهة أخرى، كما أعاق قدرة الاتحاد الأوروبي على صياغة الروادع والحوافز لأنقرة، رغم وجود فهم عام بين صانعي السياسة الأوروبيين بأن تركيا شريك أساسي لأوروبا في عدد كبير من القضايا، بدءًا من الهجرة إلى مكافحة الإرهاب.
وليس من مصلحة أوروبا أن تنفصل عن تركيا، لهذا فبعد نقاش كثير بين عواصم الاتحاد الأوروبي، أسفرت اجتماعات المجلس الأوروبي المتتالية عن تحذيرات هزيلة لتركيا، على عكس العقوبات الأكثر صرامة عليها، بسبب مواقفها البحرية الحازمة في المتوسط أو إنهاء اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي.
وإذا تُركت حالة عدم الاستقرار التي تنبع من التنافس التركي الإماراتي دون إدارة، فقد تؤدي إلى مزيد من التصعيد العسكري في ليبيا، وتهميش تركيا، وإلى انهيار اتفاق الهجرة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي. والأهم من ذلك، فإن استيراد الصراع من الشرق الأوسط إلى الفضاء الأوروبي يُظهر ضعف الاتحاد الأوروبي، في وقت يحاول فيه تطوير سيادته الاستراتيجية.
عزل العلاقات الأوروبية التركية عن التنافس بين تركيا والإمارات
يجب أن تتجنب أوروبا الانجرار إلى هذا الصراع لإعادة تعريف الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وينبغي أن تدرك جيدًا كيفية تأثيره على المصالح الاستراتيجية الأوروبية. فبالنسبة لأوروبا، تعد الإمارات شريكًا مهمًا في منطقة الخليج، ولاعبًا مهمًا في جهود إدارة "بايدن" لإحياء الدبلوماسية الإقليمية مع إيران. كذلك، وبصفتها عضوًا في "الناتو"، تُعتبر تركيا جزءًا أساسيًا من المجتمع الأوروبي الأطلسي، ورافدًا أمنيًا للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في أفغانستان والعراق وسوريا (في إدلب) والبحر الأسود. ولا تزال تركيا واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لأوروبا، وبسبب اتفاق اللاجئين عام 2016 مع الاتحاد الأوروبي، فإنها تلعب دورًا رئيسيًا في السيطرة على تدفقات الهجرة إلى القارة. ورغم التحديات في علاقة الجانبين، ترتبط أنقرة بالاتحاد الأوروبي من خلال عملية الانضمام والمجلس الأوروبي.
هذه أسباب كثيرة للأوروبيين لرفض التأثير السام للخلاف التركي الإماراتي على صياغتهم لسياسة مستقلة في تركيا؛ فمن خلال البقاء بعيدًا عن الصراع، يمكن للأوروبيين تقليل احتمال تصعيده في محيط الاتحاد الأوروبي، لكن يجب عليهم أيضًا تطوير آليات لاحتواء آثاره غير المباشرة.
وتتمثل إحدى طرق القيام بذلك في تحدي الروايات المضللة المتنافسة لتركيا والإمارات حول دور الإسلام في المجتمع. والأمر الآخر هو الحد من الدور الدفاعي لدولة الإمارات شرق المتوسط؛ إذ ينبغي على أوروبا تقديم تأكيدات لقبرص واليونان بأن سلامتهما الإقليمية سيحميها الأوروبيون، وليس الإمارات التي يثير تدخلها عدوانية تركيا. ولا شك أن تركيا شاركت في أعمال مزعزعة للاستقرار في محيط أوروبا، ورغم ذلك فعلى الأوروبيين أن يردوا لكن ليس من خلال دعم الأطراف، بل من خلال إنشاء ردع عسكري من طرفهم، وتكثيف مشاركتهم الدبلوماسية مع كل من تركيا والإمارات.
في هذا الإطار، يُعد النهج الفرنسي في التعامل مع التنافس التركي الإماراتي، تحذيرياً لصانعي السياسة الأوروبيين؛ فمن خلال معاملة باريس لأبو ظبي على أنها شريك مفيد في احتواء أنقرة، دفع ذلك الحكومة التركية لتبني سياسة الحصار في ليبيا وسوريا وشرق المتوسط، ما يعرّض محاولات أوروبا لتبني علاقة بناءة مع تركيا للخطر. وبالمثل، فقد انبهرت كل من قبرص واليونان باحتمال استخدام علاقاتهما الثنائية مع الإمارات ضد تركيا، ربما بسبب تقليلهما من خطورة العواقب طويلة المدى لفعل ذلك. وفي حين أنه من المهم لليونان وقبرص الحفاظ على علاقات جيدة مع نظام ملكي خليجي غني وقوي، فليس من مصلحتهما في الوقت نفسه إثارة عداوة تركيا، أو إبعادها عن أوروبا، خشية أن يؤدي ذلك إلى تأجيج القومية التركية؛ إذ ليست التحالفات العسكرية أو السياسية مع الإمارات حلًا سحريًا للمشاكل مع تركيا. ولعزل أوروبا عن نزاعات الشرق الأوسط، تحتاج كل من فرنسا وقبرص واليونان إلى التحول نحو الاتحاد الأوروبي، والدفع باتجاه حل أوروبي لحماية مصالحهم الجيوسياسية الأساسية ومعالجة مخاوفهم بشأن تركيا.
لا تدعموا الأطراف في ليبيا
أدى غياب الدبلوماسية الأوروبية بشأن ليبيا طوال عامي 2018 و2019 إلى خلق فراغ في السلطة، ما سمح لتركيا والإمارات بالتحرك وأن تصبحا القوتين الدافعتين على طرفي نقيض من الحرب الأهلية هناك. وبالتالي، على أوروبا أن تفرض أسبقيتها كلاعب عالمي من خلال تحقيق الاستقرار في ليبيا؛ حيث أن الصراع الليبي مدفوعًا بأطراف خارجية، لا سيما تركيا والإمارات، في الوقت الذي فشل فيه الأوروبيون في الضغط على كليهما لوقف تصفية حساباتهما على أعتاب أوروبا. وانقسم الأوروبيون بشكل كبير لدرجة عدم تمكنهم من استدعاء تركيا والإمارات لدور كل منهما في هذا الصراع، ناهيك عن منعهما من خلال حظر أسلحة محايد وقابل للتنفيذ.
وإن كانت عملية برلين عام 2020 ومحادثات الأمم المتحدة التي انبثقت عن هذه المبادرة، خطوات نحو تصحيح بعض أخطاء أوروبا السابقة، إلا أن الأوروبيين بحاجة إلى فعل المزيد؛ إذ يجب عليهم إرسال رسالة قوية إلى كل من أنقرة وأبو ظبي، مفادها أن الأحداث في ليبيا تؤثر على المصالح الأوروبية، وأن البلاد لا يمكن أن تكون بمثابة نقطة انطلاق لحرب بالوكالة مزعزعة للاستقرار. وللقيام بذلك، من الأهمية بمكان بالنسبة للأوروبيين تجنب الدعم المباشر لقوات "حفتر" أو حكومة الوفاق الوطني في الصراع، والضغط من أجل عملية سياسية شاملة بقيادة الأمم المتحدة، يكون لديها فرصة لتشكيل حكومة تمثيلية وتقليل الصراع العسكري وإقامة سلام دائم.
ادعُوا تركيا إلى منتدى غاز شرق المتوسط
استجابت تركيا بطريقة حربية لتشكيل "منتدى غاز شرق المتوسط"، الذي تعتبره تهديدًا مباشرًا لوجودها في البحر المتوسط، من خلال زيادة انتشارها في ليبيا واستعراض عضلاتها في المتوسط. وعليه، يجب أن يكون المشاركون في المنتدى عمليين؛ حيث تمتلك المنظمة، التي تُعتبر الإمارات مراقبًا فيها، المفتاح للحد من التوترات في البحر المتوسط. وبصفتها مستوردًا للطاقة، يمكن لتركيا أن تبرز كأكبر مشترٍ لغاز المتوسط أو الدخول في ترتيبات مع لاعبين آخرين لمشاريع استكشاف الطاقة الخاصة بها. وبالتالي، يجب على الأوروبيين إما دعوة تركيا للانضمام إلى المنتدى، كمراقب أو عضو، أو إنشاء اتفاقية شراكة تستطيع بموجبها شراء الغاز من أعضائها أو الدخول في مشاريع مشتركة.
عقد مؤتمر البحر المتوسط
بالنظر إلى التركيز البحري الجديد لكل من تركيا والإمارات، سيظل البحر المتوسط ساحة معركة رئيسية للمنافسة الجيوسياسية بين البلدين. وفي هذه البيئة، تحتاج أوروبا إلى إنشاء عمليتها الخاصة لفك التضارب في المنطقة وتقليل آثار التنافس التركي الإماراتي هناك، إذ من مصلحة الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل إنشاء آلياته الخاصة لخفض التصعيد.
وفي هذا الصدد، تُعتبر عملية برلين بشأن ليبيا مثالًا جيدًا على الأدوات التي يملكها الاتحاد الأوروبي، والتي جاءت لتشمل المنظمات متعددة الأطراف، لكنها غير كاملة؛ فقد وفّرت للأوروبيين آلية لتنسيق خفض التصعيد، وتغذية وقف إطلاق النار وإعادة تنشيط العملية السياسية للأمم المتحدة.
لذلك، يتعيّن على الاتحاد الأوروبي الآن تنظيم مؤتمر لعموم المتوسط والذي يمكن أن يتطور إلى إطار متعدد الأطراف على غرار عملية برلين، كما يمكنه أن يناقش الحدود البحرية والموارد الهيدروكربونية. ومن خلال دعوة مشاركين من الدول الساحلية- بما في ذلك قبرص- وممثلين من مجتمع التفاوض القبرصي التركي، سيخلق المؤتمر مساحة جديدة لتشجيع الاستيطان في قبرص، الأمر الذي يمكن أن يكون كذلك بمثابة منصة لجلب المنافسة على الهيدروكربونات بما يتماشى مع معايير الصفقة الخضراء الأوروبية، وهو اعتبار غائب عن الصراع الجيوسياسي الحالي. ومن المرجح أن يكسب مثل هذا الجهد دعم إدارة "بايدن" وأن يقلل من الانقسامات الداخلية في أوروبا.
استخدموا منصة "الناتو" لإنهاء النزاع
إن حلف شمال الأطلسي "الناتو" أداة مهمة ولا يستهان بها للمساعدة في احتواء التنافس بين تركيا والإمارات؛ فلطالما أرادت الإمارات، الملقبة بـ"ليتل سبارتا" (سبارطة الصغيرة) لاهتمامها باكتساب القوة العسكرية، تطوير علاقتها مع "الناتو". كما كانت عضوًا في مبادرة إسطنبول للتعاون التابعة للحلف منذ عام 2004، وكانت من بين الأعضاء الأوائل في مبادرة برنامج الشراكة والتعاون الفردي (عام 2016)، كما كانت نشطة في المهام التي يقودها "الناتو" في البوسنة وليبيا وأفغانستان. لكن تطور علاقة الإمارات مع "الناتو" تباطأ منذ عام 2016، حيث يرجع ذلك جزئيًا إلى حق النقض الذي تمتلكه تركيا داخل الحلف. وكما قال أحد مسؤولي "الناتو" مؤخرًا: "لدينا مشاكل مع الإمارات لأن تركيا لديها مشاكل مع الإمارات."
ونظرًا لاحتمال تقليص الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتركيز إدارة "بايدن" على التعددية، فمن المرجح أن يتم تنشيط "الناتو" في السنوات القادمة، كما هو الحال بالنسبة لدولة الإمارات في تعاون أوثق مع الحلف. وبسبب اهتمام الحلف بشكل متزايد بالقضايا الأمنية على الجانب الجنوبي لأوروبا، فإن لدى الأوروبيين فرصة لإقناع الإمارات وتركيا بإنشاء خط ساخن لحل النزاعات داخل الحلف، فضلًا عن تحديد بروتوكولات لمنع التصادم العسكري.
الخلاصة
يعتبر التنافس التركي الإماراتي مشكلة مستعصية تؤثر الآن على الديناميكيات الداخلية في أوروبا؛ فالصراع، الذي يدور حول الجغرافيا السياسية أكثر من الأيديولوجية، يساعد كلا النظامين على توسيع نطاق انتشارهما عبر المنطقة وتعزيز دعمهما المحلي. وقد حاولت كل من تركيا والإمارات نشر رواياتهما الخاصة حول النزاع في العواصم الأوروبية وواشنطن، لتسليط الضوء على نقاط القوة المزعومة والضغط ضد الجانب الآخر. لكن كليهما يهدف في الواقع إلى بسط نفوذهما على الجوار الأوروبي بطريقة تثير إشكالية عميقة للمصالح الأوروبية.
وبدلًا من استخدام أحد الفاعليْن للرد على الآخر- وبالتالي ربط السياسة الأوروبية بالصراعات الإقليمية والتنافس الصفري- يجب على الأوروبيين تبني قوتهم الخاصة واستراتيجيتهم المستقلة، وأن يتطلعوا إلى إدارة الآثار المزعزعة للاستقرار لهذا التنافس في البحر المتوسط. وإذا كان الاتحاد الأوروبي يريد تطوير استقلاليته الاستراتيجية في جواره الجنوبي، فسيحتاج إلى إنشاء آلية مملوكة لأوروبا لفك التضارب في البحر المتوسط، والمضي قدمًا في عملية برلين في ليبيا، وتصميم إطار جديد لبناء علاقته مع تركيا.
عن المؤلفين
- أسلي آيدنتاشباش: زميلة سياسية بارزة في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية وخبيرة في الشأن التركي، تخرجت من كلية "بيتس" وحاصلة على ماجستير من جامعة نيويورك. قبل انضمامها إلى ECFR. كان لديها خبرة طويلة في الصحافة، حيث عملت ككاتب عمود في Cumhuriyet وMilliyet، واستضافت برنامج حواري على CNN Turk. وكانت تكتب عمود الآراء العالمية لصحيفة واشنطن بوست، وكثيرًا ما ساهمت في صحف مثل نيويورك تايمز، بوليتيكو، وول ستريت جورنال. يتركز الكثير من عملها على التفاعل بين الديناميكيات الداخلية والخارجية لتركيا.
- سينزيا بيانكو: زميلة زائرة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وتعمل على التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية في منطقة الخليج، فضلًا عن علاقات المنطقة مع أوروبا. حاصلة على ماجستير في دراسات الشرق الأوسط من King’s College London ودكتوراه في دراسات الخليج من جامعة إكستر. بين عامي 2013 و 2014، كانت زميلة باحثة في مشروع شراكة للمفوضية الأوروبية حول العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي.