الاستقرار لا يزال بعيد المنال في السودان

الساعة : 14:15
6 يوليو 2023

المصدر: جيوبوليتيكال إنتيليجنس سيرفس

الترجمة: صدارة للمعلومات والاستشارات

الرابط: لقراءة وتحميل الترجمة / اضغط هنا

مع عدم وجود مسار واضح لأي من الجانبين لتحقيق النصر، من المرجح أن تستمر الاشتباكات الجارية في السودان، ما سيحول دون أي انتقال إلى حكم مدني أو ديمقراطي قريبًا.

ساحة المعركة تنتقل من دارفور إلى الخرطوم

من الأهمية بمكان النظر في تاريخ السودان الحديث لفهم طبيعةالصراع الدائر حاليًا بين القوات المسلحة السودانية وبين قوات الدعم السريع، التي تم تأسيسها عام 2013 من عناصر ميليشيا الجنجويد لغرضين رئيسيين في عهد الرئيس المعزول، عمر البشير؛ حيث مثّلت قوة موازية للجيش النظامي وساعدت في تحييد "الجيش الشعبي لتحرير السودان - شمال". وكانت تلك الميليشيات (قوات الدعم السريع وسلفها "الجنجويد") مسؤولة عن الكثير من أعمال العنف التي ارتكبت في منطقة دارفور بين عامي 2003 و2006، والتي شهدت أكثر من 300 ألف ضحية.

وبهذا الشكل، فإن قوات الدعم السريع، مستفيدةً من وضعها الهجين كقوة شبه عسكرية، نجحت في الخروج من تحت السيطرة المركزية في الخرطوم. كما إن زعيمها "حميدتي"، الذي كان سابقًا أحد قادة "الجنجويد" وينحدر مثل معظم أعضائها من قبيلة رعوية عربية في دارفور، قد استفاد من السيطرة على احتياطيات الذهب في البلاد وتهريبها وإرسال مرتزقة لمحاربة الحوثيين في اليمن، ومن ثمّ الحصول على دعم من السعودية والإمارات.

بناءً على ذلك، فإن الصراع الحالي يكشف عن انقسامات عرقية ودينية عميقة الجذور، وتوترات بين النخبة السياسية والعسكرية المتمركزة في الخرطوم، والتي حكمت السودان منذ ما قبل استقلاله، وبين الجماعات الأخرى التي تعتبر نفسها مهمشة، بما فيها الرعاة العرب من مناطق دارفور وكردفان، وبالتالي فإن كثيرًا من السودانيين العرب خارج الخرطوم يرون في "حميدتي" الشخص القادر على تمثيل مظالمهم.

إضافةً لتلك التوترات طويلة الأمد في دارفور (معقل قوات الدعم السريع)، فهناك انقسامات أخرى بين السودانيين العرب وغير العرب، ما يعكس الهوية المزدوجة للبلاد باعتبارها عربية وأفريقية. وقد كانت هذه التوترات، التي تفاقمت بسبب التهميش السياسي والاقتصادي، دافعًا للحرب بين الحكومة السودانية و"الجيش الشعبي لتحرير السودان"، ما أدى في النهاية إلى استقلال جنوب السودان. علاوةً على ذلك، وكما هو الحال في دول أخرى في المنطقة، فقد أدت تلك الخلافات إلى صراعات حول السيطرة على موارد المياه والأراضي في مناطق خارج الخرطوم، وقد استغل "البشير" هذه التوترات خلال فترة حكمه للتمكين للميليشيات العربية.

لقد أودى الصراع الحالي بحياة الآلاف في الخرطوم التي يقطنها 6.2 مليون نسمة، كما يعكس الإجلاء المبكر للأجانب وتعليق العمليات الإنسانية شدة العنف والخطر المتزايد للتصعيد؛ فأكثر من نصف السكان في حاجة ماسة إلى مساعدات غذائية، بينما نُهبت البنوك والمتاجر وتضررت أو دمرت بالفعل كثير من البنية التحتية بما فيها المستشفيات.

تصميم كلا الطرفين على الحل العسكري لن يحسم الصراع

بالنظر إلى تاريخ السودان الحديث الذي يعتبر العنف والحرب جزءًا لا يتجزأ منه، فقد كانت العاصمة الخرطوم استثناءً، لكن هذه المرة سيكون للنزوح وتدمير البنية التحتية ومقومات الحياة آثار دائمة. إضافةً لذلك، فإن الخلافات العميقة بين "البرهان" و"حميدتي" وخصائص كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ستخلق بيئة يصعب فيها تحقيق أي حل عبر التفاوض. كما إن كلا الطرفين يعتقد أن النصر العسكري هو الطريق الأمثل للوصول إلى السلطة، وكلاهما مقتنع أنه قادر على كسب الصراع. وكما يتضح من فشل وقف إطلاق النار المتتالي والنتائج غير المشجعة من المحادثات التي توسطت فيها السعودية، (التي ينظر إليها كلا الطرفين على أنها جهة فاعلة موثوقة)، وبدعم من الولايات المتحدة، فلا يزال التوصل لاتفاق دائم مستبعدًا في المستقبل القريب.

بالمقابل، فإن تحقيق نصر عسكري حاسم لأي من الطرفين غير مرجح أيضًا، حيث يتطور الصراع إلى حرب استنزاف؛ فبينما يتمتع الجيش السوداني بميزة كبيرة في القدرة الجوية، تتفوق قوات الدعم السريع في عمليات حرب العصابات ومكافحة التمرد، وتعتبر الأخيرة أكثر تماسكًا ودافعًا لكسب الصراع الذي يرى فيه العديد من أعضائها أهمية سياسية كبيرة. وحتى إذا تم كسر الجمود العسكري في الخرطوم، فمن المتوقع أن يستمر التنافس في دارفور، ما سيؤجج الصراع العرقي.

تداعيات الصراع على الأمن الإقليمي

تجري متابعة تطورات هذا الصراع عن كثب في كل من القرن الأفريقي وشمال أفريقيا والشرق الأوسط؛ فبعد الجهود السعودية التي لم يكتب لها النجاح حتى الآن، قد تتعطل محاولات الوساطة الخارجية بسبب التوترات الإقليمية وبسبب نظرة كل جانب إلى الوسطاء المحتملين. ورغم توخي الجهات الفاعلة الخارجية الحذر في تعليقها على الوضع، إلا أن معظم القادة الإقليميين ينظرون إلى تصعيد الصراع على أنه خطر أمني، لأنه قد يؤدي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار والتوتر في منطقتين شديدتي الهشاشة، هما القرن الأفريقي ومنطقة الساحل. ومع ذلك، فمن المرجح أن يصير التدخل الخارجي أمرًا حتميًا في سيناريو الصراع المطول.

فمن منظور إقليمي، تَعتبر قوات الدعم السريع مصر حليفًا لـ"البرهان"، بينما قيل إن "حميدتي"، الذي شاركت قواته في الصراع الليبي، مدعوم من الجنرال الليبي، خليفة حفتر، وكلاهما تربطهما علاقات وثيقة مع الإمارات. وعلى صعيد أوسع، كانت روسيا - المورد الرئيسي للأسلحة إلى البلاد - قد انتهت لتوها قبيل اندلاع العنف من اتفاق لإنشاء قاعدة عسكرية في بورتسودان. وكان السودان من أوائل الدول التي اعترفت بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، كجزء من استراتيجية موسكو للالتفاف على العقوبات الغربية، ومن هنا فقد يحاول الكرملين التأثير على الأحداث على الأرض. كما يمكن أن تلعب مجموعة "فاغنر" دورًا أيضًا؛ إذ لديها مصالح تجارية في قطاع التعدين في السودان منذ عام 2017، وإن كان زعيمها، يفغيني بريغوزين، نفى التورط في النزاع لكنه عرض العمل كوسيط، نظرًا لإمكانية وصوله إلى "جميع متخذي القرارات في السودان".

السيناريوهات المتوقعة

بغض النظر عما سيتمخض عنه الصراع، فقد سلطت الأحداث في السودان الضوء على قيود ثورات الربيع العربي في إحداث التغيير الديمقراطي، وفي الوقت الحالي ينبغي النظر في سيناريوهين أساسيين؛ كلاهما يعوق الانتقال إلى الحكم المدني والديمقراطي. والسبب في ذلك هو أن المؤسسات التي تعتبر حيوية للاستقرار والحكم الديمقراطي في السودان هشة للغاية، كما إن الجيش لا يتحكم في وسائل الإكراه فحسب، بل يتحكم أيضًا في موارد البلاد والقطاعات الاستراتيجية في اقتصادها المختل أصلًا، من الذهب والأراضي إلى الإسكان والاتصالات.

والسيناريوهان الرئيسيان حاليًا هما: إما حرب أهلية طويلة الأمد، ما قد يؤدي لإنشاء حكومة موازية وترسيخ الهياكل الأمنية المنفصلة، أو صعود رجل قوي آخر إلى السلطة.

في ظل السيناريو الأول، وهو الأكثر ترجيحًا، سيخوض الجيش وقوات الدعم السريع صراعًا طويل الأمد؛ إذ لا يمكن لأي من الطرفين أن يحقق انتصارًا عسكريًا حاسمًا. فدون دعم خارجي لن تكون هيمنة الجيش السوداني في الخرطوم وحدها كافيةً؛ فمن المرجح أن يستمر العنف في دارفور، وقد تتمكن قوات الدعم السريع من زيادة سيطرتها على الأراضي والموارد. ومن النتائج الأخرى لذلك إنشاء جماعات مسلحة، بما فيها مجموعات دفاع محلية، لا سيما في المناطق الواقعة على طول الحدود مع تشاد وجنوب السودان.

وقد يشبه هذا السيناريو ما حدث في ليبيا بعد سقوط "القذافي"، وسيزيد من تدهور الوضع الإنساني الهش بالفعل، وكما رأينا في حالات مثل مالي فإن زيادة تدفق الاجئين والمرتزقة والأسلحة في منطقتين مضطربتين للغاية، هما الساحل والقرن الأفريقي، من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار.

أما السيناريو الثاني، فخلاصته أن القوات السودانية قد تسجل انتصارًا عسكريًا في الخرطوم، وتجبر قوات الدعم السريع على التراجع إلى منطقتي دارفور وشمال كردفان، وهو ما سيحوّل الحرب الأهلية المحتملة إلى صراع محلي أكثر. وفي ظل احتمال استمرار الصراع على المستوى الأدنى، فإن الدعم الخارجي - صريحًا كان أو غير صريح - قد يسمح لـ"البرهان" بتولي السلطة في العاصمة. مع ذلك، وعلى عكس "حميدتي"، الذي دعا نظريًا إلى العودة إلى الحكم الديمقراطي، فقد شكك "البرهان" بشكل صريح في العملية الانتقالية. حتى في ظل وجود بعض الاستقرار، فإن هذه النتيجة النهائية ستضع المراقبين الغربيين بين المطرقة والسندان، وستحطم آمال أولئك الذين حشدوا من أجل الديمقراطية.