استنتاجات الموجز:
- مزاجٌ شعبي غير مسبوق صوب فلسطين أربك حسابات صانع القرار الذي بات يخشى من انفلات عقال التضامن مع القضية ليصيب تعنت الدولة الحريصة على علاقة مع الاحتلال
- تفوق "حماس" العسكري يكشف شغف الأردنيين بأدائها لعودة قوية ممزوجة بندم لدى سياسيين كبار من خسارة الدولة ورقة الانفتاح على حركة باتت تشكل رقمًا صعبًا في معادلة الصراع بالمنطقة.
انشغل الأردنيون بصورة كاملة، وما زالوا، في التفاعل اللافت مع مستجدات العدوان على غزة والانتفاضة الفلسطينية في عموم فلسطين، في تلاحم غير مسبوق دفع جماهير كبيرة للتجمع قرب الحدود وتسلل شابين يحملان السكاكين لداخل الأراضي المحتلة واعتقالهما. وقد حملت الهبة الأردنية العديد من الدلالات السياسية والشعبية والاجتماعية التي تُرصد لأول مرة منذ توقيع اتفاقية السلام بين عمّان وتل أبيب عام 1994، حيث تصدر هاشتاغ “يلا عالحدود” ليصبح الأكثر رواجًا على المنصات الأردنية، بما يوحي سياسيًا بأن “بوابة فاطمة” جديدة على الطريقة اللبنانية في طريقها للولادة في المخيلة الشعبية الأردنية، في منطقة الكرامة المحاذية لفلسطين.
في الشأن ذاته، أثارت المظاهرة كثيرًا من التساؤلات وفجرت ألغامًا سياسية على مستوى توحد الشارع الأردني، فيما بدا واضحًا أن التحولات في الموقف الرسمي الأردني جراء التحرش "الإسرائيلي" الدائم بالوصاية الهاشمية، أغرت كثيرين للنزول حيث ردد مئات من أبناء العشائر الأردنية الأهازيج الفلسطينية بصورة غير مسبوقة. من جانبهم، وقّع أعضاء مجلس النواب الأردني على مذكرة بالإجماع تطالب بطرد السفير "الإسرائيلي"، مع العلم أن سقف مطلبهم الذي تنص عليه المذكرة الجماعية قد لا تستطيع الحكومة تنفيذه أو الالتزام به.
رغم ذلك، يدرك آلاف النشطاء من أبناء العشائر والقوى الوطنية الأردنية، الذين تجمعوا وما زالوا في مختلف الميادين، أن السفير "الإسرائيلي" لن يطرد قريبًا وأن الحدود لن تفتح، لكن السماح رسميًا بأنشطة من هذا النوع هي رسائل سياسية حذرة وخشنة من مختلف المستويات الأردنية للاحتلال. ولعل الأهم في الزاوية الأردنية من تطورات المشهد، أن قبائل أردنية يعرف الجميع أنها مسلحة هي التي تتجاوز التعبيرات الإنشائية اليوم، وهي تدخل الخط الاشتباكي دون مقدمات وعلى أساس أن شرف الدفاع عن الأقصى ليس مهمة الشعب الفلسطيني فقط. وقد ورد هذا في بيان شهير لقبيلة "بني حسن"، وهي الأضخم شرقي نهر الأردن، وفي تعبيرات لقبيلة "بني صخر"، وفي أخرى لقبائل بئر السبع التي طالبت الملك مباشرة بفتح الحدود حتى يتسنى للزاحفين التقدم والمشاركة في المعركة.
بالمقابل، وفي مربع الحكومة تعتبر مسألة رفض السفير أمرًا شائكًا؛ فالحكومة ليست مضطرة دستوريًا للاستجابة لذلك، بينما توجد قناعة راسخة وسط مركز القرار الأردني أن الإجراء الأبعد والأكثر صعوبة الذي يمكن للأردن أن يتخذه، في مواجهة التصلب "الإسرائيلي" والاعتداءات، هو استدعاء السفير الأردني في تل أبيب ومطالبة سفير "إسرائيل" في عمّان بمغادرة المملكة، وهو إجراء يعتبر السقف الأعلى للخارجية الأردنية، لكنه من الصعب أن يتخذ في ظل مسار الأحداث الحالية.
هذا، فيما يتذرع مسؤولون كبار في الحكومة الأردنية بأن استدعاء سفير وطرد آخر خطوة كبيرة بالميزان الدبلوماسي، لذلك وعلى الأرجح ستلجأ الحكومة إلى تجاهل توصية النواب أو الاعتماد عليها لاحقًا كورقة ضغط باسم الشارع الأردني. من جهة أخر، وفي تحليل الموقف الأردني، تبرز قناعة راسخة بأن التأخر الرسمي في استخدام أوراق القوة الناعمة كطرد السفير، من شأنه أن يراكم فاتورة وكلفة خروج الأردن أكثر من المعادلة الفلسطينية.
في سياق موازٍ، ارتفعت أصوات كثيرة تكشف عن مقدار الندم السياسي على سياسة القطيعة، التي استمرت سنوات مع قيادات وأطر حركة "حماس" ومع النصف الثاني من الشعب الفلسطيني ومؤسساته؛ فبسبب هذه القطيعة التي يراها كثيرون، حتى من رجالات الدولة، غير مبررة وطنيًا ومحليًا أو حتى سياسيًا. وذلك لأن الأردن فقد هامش المناورة وورقة القدرة على الاتصال بالحركة والتواصل مع قياداتها، ويبدو ذلك واضحًا للجميع عندما يتعلق الأمر بإحصاء المخاسر الدبلوماسية، حيث كانت الأطراف الأمريكية والأوروبية تتحدث مع مصر وقطر في التفاصيل ولا تطرق النافذة الأردنية. وحيث إن البضاعة الدبلوماسية الأردنية في سلة السلطة والرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وحركة "فتح" بشقها السلطوي فقط، فقد دفع ذلك بطبيعة الحال لحرمان الدور الأردني من ورقة أساسية كان يمكنه اللعب بها على طاولة الحدث.
برلمانيًا، بادر النائبان "ينال فريحات" و"موسى هنطش" لحث الحكومة وبسرعة على فتح مكاتب لحركة "حماس" في عمّان، فيما تساوق آخرون مع المطالب الشعبية بفتح الحدود، بينما لوّح رئيس لجنة فلسطين، محمد الظهراوي، بحجب الثقة عن الحكومة إذا لم تطرد سفير الاحتلال. ولأول مرة أيضًا يطالب النواب بتأمين زيارة لحي الشيخ جراح في القدس؛ حيث خرجت مذكرة فرعية في السياق تضغط على الحكومة للعمل على تنسيق زيارة تضامنية تضم 100 نائب في برلمان الأردن.
مقابل ذلك كله، بدا الخطاب الرسمي متمسكًا بكلاسيكيات ما قبل حرب غزة الأخيرة وانتفاضة الأقصى، مع أن الاعتبارات والمتغيرات كبيرة جدًا ومعقدة حتى في الداخل الأردني، وهنا تحديدًا لم يجد رئيس الوزراء، بشر الخصاونة، تحت قبة البرلمان ردًا على دعوات فتح مكاتب لحركة "حماس" والمقاومة في عمّان، إلا التذكير بأن بلاده لا تتعامل مع فصيل محدد بعينه في المعادلة الفلسطينية. وهذا التعليق يعني بوضوح أن ملف فصائل المقاومة الفلسطينية، ورغم التطورات الأخيرة، لا يزال تراتبيًا يتم التعامل معه في المستوى "الأمني"، ولم يقفز بعد إلى المستوى السياسي.
في سياق متصل، أعلن جيش الاحتلال، الثلاثاء، إسقاط طائرة مسيرة قرب الحدود مع الأردن؛ وفي التفاصيل قال متحدث باسم الجيش: "في ساعات الصباح الباكر، تم رصد وإسقاط طائرة مسيرة اقتربت إلى حدود الدولة في منطقة وادي العيون في الأغوار"، مضيفًا أن قوات الأمن جمعت حطام المسيرة، دون أن يذكر الجهة التي يشتبه في أنها أطلقتها.
بالتوازي مع ذلك، قالت وزارة الخارجية الأردنية إن المواطنيْن اللذين أعلن وزير الداخلية، مازن الفراية، استعادتهما من "إسرائيل" ليسا هما من عبرا الحدود. يذكر أن الإعلام "الإسرائيلي" أعلن إلقاء القبض على أردنييْن مسلحيْن بسكاكين بعد تجاوزهما الحدود، لكن وزارة الخارجية أوضحت أنها لا تزال تتابع موضوع اعتقال المواطنيْن، مشيرةً إلى أنه تم تسلم مواطنَين آخرين كانا قد عبرا الحدود أيضًا، دون أن تحدد موعد تسللهما.